أبصرت عيني النور في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة لعام 1385هـ بإحدى قرى منطقة الباحة الواقعة في الجنوب الغربي من شبة الجزيرة العربية وحملت إلى جانب اسمي الرقم (3) في التسلسل العائلي وكحال كل أهل قريتي عشت حياة متوسطة لم أذق مرارة ا لجوع إلا أنني لم أعرف رغد ا لعيش حدثتني والدتي ذات مساء بأنني كنت كثير المرض وأنها يئست من حياتي أكثر من مرة، إذ لا طبيب ولا دواء سواء مايصفه عجائز قريتي من الأعشاب وأخلاط قد تضر أكثر من أن تنفع.. غير أن المولى عز وجل قدر لي أن أعيش.. لم أكن أرى والدي ( رحمه الله ) في السنة سوى شهراً واحد ينقص او يزيد قليلاً.. إذ كان ينتقل بين المدن والدول أحيانا في سبيل لقمة العيش. كانت والدتي ( رحمها الله ) تمارس دور الأب والأم في آن واحد فكانت مركز العقاب ومصدر العطف والشفقة والحنان..كانت تضرب بشدة، وكانت تحضن بحنان ورفق.. خليط عجيب من السلوك الإنساني فرضه ذلك الزمن الصعب.
لا أعلم بالتحديد متى بدأت توكل إلي المهام غير أنني أتذكر أني كنت أستيقظ مع خيوط الفجرالأولي ارتدي ثوبي الوحيد وكان يطلق عليه ( ثوب المدرسة ) بمعنى أن لا يرتدى إلا عند الذهاب إلى المدرسة وأنطلق مسرعاً إلى حيث تجتمع عائلتي أتناول طعام الإفطار وياله من إفطار ،فالحمد لله من قبل ومن بعد - أنطلق بعدها على أقدام تارةً حافية وتارة منتعلة ، إلى مدرستي التي لا تبعد كثيراً من منزلي ، وهناك تبدأ حياة أخرى ( تعليم أولي ) وإمكانات محدودة وسلطة عقاب يمارسه كل من في المدرسة ، من المدير وحتى الفراش ، مقياس التميز هو الانضباط والانضباط فقط أما العلم فحدث ولا حرج ، صحيح أن الإخلاص كان شديداً لدى أساتذتي والرغبة في تعليمنا كانت هدفهم ولا شك , لكن إمكانيات ذلك العصر البشرية وغير البشرية كانت على قدر الحاجة 0 لا أذكر مطلقاً أنني أحببت المدرسة رغم أننا ننشد كل صباح :
مع الصباح المشـــرق * في كل يوم نلتــــقي
أذكر ذات مرة أنني وقعت من على حمار( أجلكم الله ) كنت أمتطيه على كومة من الصخور نتج عنها رضوض في كافة جسمي وشج في رأسي وكسر في أسناني الأمامية تورم منها وجهي 0 ولما لم نكن نعرف الطب والأطباء بعد كما أسلفت0 فلم يكن بوسعي سوى انتظار الشفاء _ والدتي من جانبها رأت أن علي أن استريح ذلك اليوم بعد أن حاولت إيقافي على قدماي ولم أستطع 0 وكانت قد شهدت طول الليل بكائي والآمي 0 كانت فرحتي عارمة بقرار العفو ذلك رغم معاناتي الشديدة ، وبدأت أهيئ نفسي لهذه المنحة الجليلة 0 كم هو جميل أن ترتاح من عناء المدرسة وعصي المعلمين يوماً كامل 00 وذهبت مع غيمة فكــر حالمة بددها صـوت أجش أعرفه جيداً 00 محــمد 00 محمــــد 00 وينك : يا 0000يا البليــــــد هكذا بدون مقدمات ( بليد)
حكم جائر‍‍0 يأتي صوت والدتي من جوار بقرتها الحلوب :
( مين 00 مين 00 وبدأ الحوار التالي :
ـ أنا الفراش وين ولدك 0
ـ مريض يا عم ما يقدر يمشي 0

ـ مريض وإلا يتمارض !!
ـ لا والله ما يقدر يقوم 00 طاح من فوق الحمار أكرمك الله
ـ افتحي طريق خليني أشوفه 0
ـ هذا هو عندك ادخل 00 ما أحد قدامك
ويدخل الفراش الطبيب !! ينظر إلي يصعد نظره ويقرر : الولد مافية إلا العافية 00 وقبل أن يتم كلامه 00 يمد يده وينتزعني من فراشي وأنا لاحول لي ولا قوة 0 تهرول أمي تحتج بأدب : ( ما تشوف إنه تعبان) ويأتي الرد القاطع :
( قلت لك مافية إلا العافية ) ويجرني خلفه كما تجر السائمة من الأنعام ، لا أظلمه 00 فقد كان في بعض الأحيان يحملني ( رحمه الله رحمةً واسعة فصورته مازالت في مخيلتي ) 0
لم تكن واجباتي اليومية تنتهي عند نهاية اليوم المدرسي إذ كان علي فور العودة أن أتناول طعام الغداء أن جاز لنا تسميته غداء ثم أحمل كتبي ودفاتري وأسوق قطيعاً من الأغنام لايزيد عن عشرين رأساً ( شفت العصر ) إلى جبل ليس بالقريب وأمارس مهامي المزدوجة 00 حفظ وكتابة ورعي وحماية 00 أعود مع مغيب الشمس خائر القوي 00 جائع البطن 00 ألتهم ما أجده 00 ثم آوي إلي فراشي ـ الذي علي أن أفرشه وأن أرفعه ـ وأستلقي 00 صوت والدتي يقطع السكون حاملاً الأمر ما قبل الأخير ( لا ترقد لين تصلي ) استرق السمع وما أن يشرع المؤذن في الآذان حتى أهب واقفاً 00 أربع ركعات سريعة بوضوء أو بدون لا يهم 00 المهم تقتنع أمي – غفر الله لنا ولها – أنقض مرةً أخرى على الفراش ويأتي الأمر الأخير ( أخرج قبل ما تنام ) وأخرج متثاقلاً أفعلها تحت شجرة اللوز القريبة وأعود مسرعاً 00 يصافح سمعي صوت مذياع عمي الذي هو جارنا أيضاً ذلك المذياع العتيق الذي لا يجرؤ أحد كائن من كان على لمسه أو الاقتراب منه فقط عمي هو من له الحق في فتحة أو غلقه 0 حفظت موعد الفتح عن ظهر قلب هو بالتحديد حين عودتي مسرعاً من تحت شجرة اللوز غير أنني لا أعرف بالتحديد موعد إسكاته00 آخر ما أسمعه مقدمة برنامج ألوان شعبية لمحمد بن شلاح المطيري 00 واستيقظ صباحاً ويبدأ اليوم بنفس البرنامج وهكذا دواليك00000

منقول
يتبع