يتبع
وهاهو آخر يحكى لي بائع مجوهرات يذكر لي في رمضان في سنة من السنوات يقول تقدم إليّ رجل وأمه وزوجته وابنه الصغير قال دخلوا إليّ في المحل قال فوقفت الأم متحجبة على استحياء وابن ابنها معها تمسك به قال وتقدمت الزوجة وزوجها فأخذوا من الذهب بمقدار عشرين ألف ريال قال ثم تقدمت الأم من هناك فأخذت خاتم بمائة ريال ، جاء يحاسب صاحب المجوهرات هو يعرف أنه أخذ بعشرين ألف قال كم حسابك قال عشرين ألف ومائة ريال قال وما هذه المائة قال أمك أخذت خاتماً بمائة فغضب وأرغى وأزبد وتقدم إليها وأخذ الخاتم من يدها وقال العجائز ليس لهن ذهب وليس لهن زينة فما كان من هذه الأم إلا أن ذرفت دموعها وتغصصت بجرعها وما كان منها إلا أن خرجت بابنه تحمله بين يديها إلى السيارة وركبت السيارة ، بها من الهم ما لا يعلمه إلا الله ، يقول صاحب المجوهرات وأنا أعرفه والله لقد بكيت أنا مما رأيت من الموقف قال فقالت زوجته إن أمك هي التي تمسك بابننا وهى التي تخدمنا فما لك لا تعطيها هذا الخاتم لن تمسك بابني بعد ذلك ولن تخدمني فذهب إليها بالخاتم وقال لها خذي يا أماه قالت والله ما لبست ذهبا ما حييت والله ما عرفت الذهب ما حييت أبدا كنت أريدها لأفرح به معكم فرأيت أن الأم لا داعي لها أن تلبس الزينة والله ما لبسته أبدا أرأيتم عقوقا مثل هذا العقوق أيها الأحبة إن هذا في غياب تقوى الله عز وجل وفى غياب التربية الإسلامية في البيوت وهاهي قصة أخرى لتعلموا أن دعوة الوالدين مستجابة فسلطوها فيما ينفع الأبناء في دنياهم وأخراهم ، داعية من الدعاة إلى الله يذكر عن أبيه يقول أبي كان في سن الشباب وَجَدُّهُ كان رجلا صالحا قال وأنا في سن الشباب فتح القبول في السلك العسكري في المملكة قبل فترة طويلة قال وكان عندي غنم كنت أرعاها قال فقلت لأذهبن مع الناس لأسجل في العسكرية فقال لأبيه أريد أن تأذن لي أن أذهب فماذا كان منه ما كان منه إلا أن قال أنا لا أستطيع فيك يا بنى أما أن آذن لك فوالله لا آذن لك أما إن ذهبت فوالله الذي لا إله إلا هو فما لي إلا سهم أوجهه إلى الله في منتصف الليل ولعل الله لا يرده، ذهب الرجل وخاف أن يذهب ويترك والده وبقي فترة ثم أغرته ذهاب الناس إلى هناك واستلام الرواتب أغرته الدنيا فترك غنمه مع غنم جيرانه وذهب وقال لا تخبروه عني إلا في الغد فذهب وترك والده ولم يستأذنه ولم يخف من ذلك السهم الذي قال له وفي اليوم الثاني يخبر أبوه بأنه قد ذهب مع مجموعة ليسجل في العسكرية <بالطائف> قال وذهبوا في الطريق دعا عليه أبوه وبينما هم في منتصف الطريق وإذ بالولد يعمى لا يبصر شيئا فأخذوه وتقدموا به إلى >الطائف < وجاءوا إلى هناك قالوا هذا لا يصلح للعسكرية هذا أعمى أعيدوه لوالده فأخذوه وذهبوا به إلى والده لا يدرى والده ماذا حدث له وعندما دخلوا من الباب سمعه والده وعرف صوته وهو في فناء البيت لم يدخل بعد قال يا بني هل أصاب السهم أم لم يصب قال إي والله إني لأدخل عليك أعمى مقاداً فدخلوا به عليه فتأثر الأب تأثرا عظيما وندم أن دعا على ولده بهذه الدعوة وبقى ليلته تلك في حزن لا يعلمه إلا الله قام يتوضأ ويصلي ويدعو الله أن يرد عليه بصره يقول ومن حزنه على ولده يتقدم إلى عين ولده وهو نائم فيلحسها بلسانه ثم يرجع فيصلي ويدعو الله ثم يرجع مرة أخرى فيلحس عينه بلسانه وهكذا يرددها ، يقول والله ما طلع الفجر إلا ورد الله سبحانه وتعالى عليّ بصري ، دعوة الوالدين وأنا لا أدعو الوالدين إلى إن يدعوا على أولادهم وإنما أدعوهم أن يدعوا لأولادهم بالفلاح والسعادة فإن فلاحهم وسعادتهم قد تدركك ولو بعد موتك أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لصلة الأرحام وأن يجنبنا وإياكم العقوق هو وليّ ذلك والقادر عليه ، [عبد الله بن عمر] يرى طائفا يطوف بالكعبة ويحمل أمه على كتفيه ويقول يا [ابن عمر] أتراني أوفيت أمي حقها والله إنها لعلى ظهري من كذا إلى الآن قال لا والله ما أوفيتها طلقة من طلقات الولادة ، العقوق دين وبروا تبروا أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى صلة الأرحام وأن يجنبنا العقوق ونواصل إن شاء الله تعالى بعد الآذان .
وهاهو غاد آخر يغدو ليبر والديه ويصل رحمه فيصله الله عز وجل ويبره الله عز وجل ويوفقه ويسدده الله عز وجل ويدخله الجنة بإذنه سبحانه ، شعاره
ليس الواصل بالمكابر وإنما *** الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها
هاهي [الشيماء بنت الحارث] أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع أرضعته وإياها [حليمة السعدية] في بنى سعد وبعد أربعين سنة من الفراق بين الأخ وأخته افترقا وهما صغيران سمعت به أنه انتصر صلى الله عليه وسلم وانتصرت دعوته وهو <بالمدينة> فانتقلت من بادية بنى سعد في <الطائف> تقطع الفيافي والقفار والصحاري التي يبيد فيها البيد ويضيع فيها الذكي والبليد حتى جاءت إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم هناك ، وبينا هي هناك والنبي صلى الله عليه وسلم في وسط جيشه يدبر شئون الأمة ويصرف الجيوش جاءت إلى أحد الصحابة تستأذنه لتدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أنا [الشيماء بنت الحارث] أرضعتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم [حليمة السعدية] فاستأذنوه لأدخل عليه فأخبروا النبي الله صلى الله عليه وسلم وكان جالسا في شئون الأمة يصرفها قالوا فذرفت عيناه الدموع صلى الله عليه وسلم تذكر الوشيجة وتذكر العلاقة وتذكر رضعات كانت بينه وبينها قبل أربعين عاما قالوا وذهب إليها يستقبلها ويعانقها عناق الأخ لأخته بعد فراق أربعين عاما ويسألها ما حالها كيف حالك يا [شيماء] مرحبا بك يا [شيماء] يقولون ويظللها صلى الله عليه وسلم من الشمس ويجلسها في مكانه ليعلم الناس كيف يصلون أرحامهم صلى الله عليه وسلم وجلست معه وسألها عن رَبْعِها وعن أهلها وعن أخواتها وما كان منه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن قال لها يا [شيماء] إن شئت أن تعيشي معي فأختي الحياة حياتي والموت موتي وإن شئت أن ترجعي لأهلك فذلك لك قالت بل أرجع لأهلي فقام صلى الله عليه وسلم فجهزها بقطيع من الإبل وبأرزاق معها لِيُعَلِّمَ الناس صلة الأرحام لتعود إلى بادية بني سعد فأين الذين قطعوا عماتهم وأين الذين قطعوا خالتهم وأين الذين قطعوا أمهاتهم ما حال هؤلاء يوم يقفون بين يدي الله (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها وغاد آخر يغدو ليهلك نفسه يشهد شهادة الزور يوم أصبحت شهادة الزور قرضة في بعض القرى اشهد لي زورا أشهد لك زورا يقترض بعضهم من الآخر النار وبئس القرار ما يبرح شاهد الزور مكانه حتى تجب له النار كما قال صلى الله عليه وسلم أما الآخر فيغدو فيعتق نفسه فيشهد شهادة الحق فيكون له الأجر وياله من أجر الجنة بإذن ربه فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع النفس فمعتقها أو موبقها .
والآخر يغدو ليهلك نفسه في البحث عن الرزق الحرام لم يوفق للحلال مطلقا فمطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام بيعه حرام وشراؤه حرام وماله حرام في حرام يتغذى بالحرام من أخمص قدميه إلى رأسه إن تصدق لن يقبل الله منه صدقته وإن خلف ماله وراء ظهره كان زادا له إلى النار يقول النبي صلى الله عليه وسلم "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أخذ ماله من حلال أم من حرام" ويقول:" إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما" ومن أعظم الحرام الربا ، الربا بضع وسبعون شعبة أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية والربا عم ودخل غالب البيوت إلا من رحم الله أسأل الله أن يجيرنا وإياكم من الربا وغير بغير اسمه وتناسى الذين تعاملوا به قول الله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وزروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) نسوا قول الله (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) تداوله الذين يريدون إيباق أنفسهم والله لو لم يكن في أكل الحرام إلا أنه لا ترفع لصاحبه دعوة لكفى بذلك زاجرا عنه وآخر يغدو ليعتق نفسه فيبحث عن لقمة الحلال فوالله إن لقمة الحلال نادرة لكنها هنيئة مرئية ميسرة فمطعمه حلال ومشربه حلال ويغذى بالحلال ودعوته أحرى أن تجاب من رب الأرض والسماء ها هو [أبو بكر] رضي الله عنه وأرضاه ما كان ليأكل إلا حلالا وكان أحيانا يسأل إذا شك في الطعام، وجاءه غلامه يوما من الأيام فقدم له طعاما فأكل منه لقمتين فقال الغلام لم تسألني اليوم يا [أبا بكر] إن هذا من كهانة كنت قد تكهنتها في الجاهلية فصادفني صاحبها فأعطاني هذا الطعام فعلم أنه طعام محرم فوضع إصبعيه في فمه يريد أن يخرجه كادت روحه أن تخرج وما خرج هذا الطعام قالوا يا [أبا بكر] رحمك الله تقتل نفسك للقمتين لا تعلم أنها محرمة عفا الله عنك ، إن كنت مريدا إخراجها فاشرب ماء فشرب ماء ثم أدخل يده مرة أخرى كادت روحه أن تخرج وخرجت اللقمتين قالوا عفا الله عنك قال والله لو لم تخرج إلا وروحي معها لأخرجتها لأني سمعت حبيبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به"
وهناك غاد آخر يغدو ليهلك نفسه فيسلط لسانه على عباد الله يغتابهم ويتهمهم ناسيا قول الله عز وجل (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) وقوله صلى الله عليه وسلم "لما عرج بي مررت على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يقعون في لحوم الناس ويأكلون أعراضهم" المغتابون الذين همهم فلان وفلان ونسوا عيوب أنفسهم ولو اشتغلوا بعيوب أنفسهم لكان أحرى وأولى يهدي حسناته إلى الناس ، [الحسن البصري] عليه رحمة الله سمع أن رجلا اغتابه فما كان منه إلا أن فتش في بيته عن هدية له فما وجد سوى طبق من رُطَب فأخذه وقال لخادمه اذهب إليه وقل له سمع الحسن أنك أهديت إليه حسناتك فما وجد لك مكافأة إلا طبق التمر ولو عدت لعدنا والله لولا أني أخشى أن يُعْصَى الله لتمنيت أن لا يبقى أحد في الدنيا إلا اغتابني لأنه يهدي إليّ حسناته وهو لا يشعر ، كثير من الناس يصلون ويعملون الصالحات وفى جلسة واحدة يمحقون ذاك العمل كله بالوقوع في عرض هذا والوقوع في عرض هذا فإياك واللسان
احفظ لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان
احفظ لسانك واحترس من لفظه *** فالمرء يسلم باللسان ويعطب
أما الآخر فيغدو فيدافع عن أعراض المسلمين ويرد عنهم في المجالس وكلامه ذكر الله أو كلام مباح فيرد الله عز وجل عن وجهه النار يوم القيامة فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع نفسه معتقها أو موبقها غاد آخر يغدو ليهلك نفسه بالإفساد بين الناس بالنميمة والوشاية ناسيا قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة نمام" أما الآخر فيغدو للإصلاح بين الناس فأجره على الله أكرم الأكرمين سبحانه وبحمده وذاك يغدو ليهلك نفسه ويقسي قلبه بسماع الغناء الماجن الذي حرمه الله جل وعلا وقال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" فيشتري الغِنا ويشتري الخَنَا والفجور بماله ثم يدخلها إلى بيته لينشر الرذيلة فيه ليصبح أهل البيت بآذان لا تسمع وقلوب لا تفقه وأعين لا تبصر بهائم في مسلاخ بشر ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشا لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة وآخر يغدو لسماع آيات الله تقرع قلبه فيلين قلبه وتدمع عينه ويطيع ربه ويدخر الله له غناء ليس كهذا الغناء الماجن غناء الحور العين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر كلمات الأغاني هي الآتية : نحن الخالدات فلا يمتن نحن المقيمات فلا يظعن نحن الراضيات فلا يسخطن نحن الناعمات فلا يبأسن نحن الحور الحسان أزواج قوم كرام ، طوبى لمن كان لنا وكنا له ، ثم يرسل الله ريح على زوائد أغصان أشجار الجنة فتهزها فتحدث منها صفير صوت كل طير في الجنة لو قضى الله الموت على أهل الجنة طربا لماتوا طربا ولكن خلود ولا موت قال [ابن عباس] ويرسل ربنا ريحا تهز ذوائب الأغصان ريح تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان يا خيبة الآذان لا تتبدلي بلذاذة الأوتار والعيدان خابت أذن استبدلت كلام الله عز وجل بأغنية ، خابت أذن استبدلت ما أعده الله لها من الغناء في الجنة بهذا الغناء الماجن فأي الغاديين أنت فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني
مواقع النشر (المفضلة)