إن في جسد كل واحد منا عضوًا فعالاً يتحكَّم في حياته بأكملها، وله من الأهمية والخطورة ما ليس لغيره .. ذلك العضو الصغير الذي بتوقفه تتوقف حياتنا وبتقلَّبه يتقلَّب حالنا .. ألا وهو القلب ..
قد يتهيأ للقاريء أننا بصدد الحديث عن موضوع طبي يشرح أهمية دور القلب في الجسد، لكن موضوعنا يصب في طب النفوس ودواء الأرواح ويشخِّص حال الإنسان مع ربه من حال قلبه وطبيعته ..
يقول النبي http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"[متفق عليه]
فالعبرة بالقلب، لإنه محل نظر الرحمن ومستودع الإيمان .. قال رسول الله http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg"إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" [صحيح مسلم]
فكيف حــــال قلوبنــــا مع الله؟ وأين قلوبنــــا من ربِّنا؟
إن القلب بطبيعته لا يثبت على حال .. وإنما سمي كذلك لشدة تقلبه، قال رسول الله http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg"إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلقت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهرا لبطن"[رواه الطبراني وصححه الألباني] فتارة نصل إلى قمة الإيمان، وتارة أخرى نتدحرج إلى سفحه أو ربما نهوي إلى أكثر من ذلك .. مرات نحس بمنتهى الخشوع والخضوع والقرب من الله عز وجلَّ، وأحيانًا أخرى كثيرة تقسو قلوبنا ونكون بعيدين كل البعد عن طريقه.
لذلك فإن الواحد منا يحتاج أن يتحسس قلبه ويتفقده في كل وقتٍ وحين .. لأن الذنوب تجعل القلب يتقلَّب في الظلام فيقسو، كما قال رسول الله http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg"إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين: 14]"[رواه الترمذي وحسنه الألباني]
واعلم إنك لن تذوق طعم الإيمان ولن تتمكن من السير في الطريق إلى الرحمن، إلا إذا استقـــام قلبك .. قال رسول الله http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg"لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولايستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"[السلسلة الصحيحة (2841)]
إذًا كيـــف تعرف حــــال قلبـــــك؟
إن الجواب عن هذا السؤال يدفعك إلى أن تضع يدك على قلبك وتجيب عن مجموعة أخرى من الأسئلة لتتمكن من معرفة حال قلبك ..
السؤال الأول: هل قلبك زائغ؟ .. فالقلب يزيغ عندما يتبع هوى النفس ويُفتن بالدنيـــا وملذاتها الفانية من أموال وشهوات ..
فهل أنت ممن فتنتهم الدنيا بأضوائها وأهوائها؟ هل أنت ممن يجري خلف ملذات الحياة وإغراءاتها؟
كان أبو سليمان الداراني يقول "إذا جاءت الدنيا إلى القلب ترحلت الآخرة منه، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تجيء الآخرة تزحمها، لأن الدنيا لئيمة والآخرة عزيزة"
فالعاقل من تيَّقن أن الدنيا والآخرة لا يجتمعان أبدًا .. قال رسول الله http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg"من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله عز وجلَّ في أي أوديته هلك"[صحيح الجامع (6189)] .. وقال http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg"من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" [رواه الترمذي وصححه الألباني]
فاحذر أن يزيغ قلبك بالدنيــا ويتبع الهوى !!
السؤال الثاني: هل قلبك مختوم؟ .. يقول الله جلَّ وعلا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ .. }[البقرة: 6,7] .. قال مجاهد "القلب بمنزلة الكف فإذا أذنب الرجل ذنباً انقبض أصبع حتى تنقبض أصابعه كلها أصبعاً أصبعاً، ثم يُطبَّع عليه، فكانوا يرون أن ذلك الران .. { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين: 14] "
فعندما تغلِّب المرء شهوته ويُصِّر على الذنب، دون أن يلتفت إلى النُذر والآيات التي يُرسلها الله تعالى لكي يُحذره من الوقوع في هذا الذنب .. تتراكم الذنوب على قلبه وتطبَّع عليه، مما يجعله لا يتأثر بذكر الله أو المواعظ بعد ذلك ..
فاحذر أن تكون ممن لا يرق قلبه لسماع المواعظ ونداء الخالق، لأن هؤلاء تديُنهم مجرد مظاهر .. وقد توَّعدهم الرسول الله http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg، فقال "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها .."[متفق عليه]
السؤال الثالث: هل قلبك محجوب عن الله تعالى؟ ..
إن للقلب أغطية تحجبه عن خالقه، كما قال ابراهيم بن أدهم "على القلب ثلاثة أغطية: الفرح والحزن والسرور .. فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم .. وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب .. وإذا سررت بالمدح فأنت معجب، والعجب يحبط العمل. ودليل ذلك كله قوله تعالى {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[الحديد: 23]"
الحجاب الأول: الفرح بالنعمة ونسيـــان المُنعِّم ..
فعندما يُنعِّم الله عز وجلَّ عليك بنعمة، تفرح بها وتنشغِّل بها عن شكره .. فتُحرَّم منها.
الحجـــاب الثاني: الحزن على المفقود ..
فيتسخَّط على قدر الله تبارك وتعالى لإنه لم يحصل على ما يريد، وهذا مُعذَّب في الدنيــا والآخرة.
الحجــاب الثــالث: السرور بمدح الناس وثنائهم .. وهذا هو العُجب الذي يُحبط العمل.
وقف رجل على إبراهيم بن أدهم، فقال: يا أبا إسحاق لم حجبت القلوب عن الله؟ قال: لأنها أحبت ما أبغض الله، أحبت الدنيا ومالت إلى دار الغرور واللهو واللعب، وتركت العمل لدار فيها حياة الأبد.
السؤال الرابع: هل تشعر بالذنب؟ ..
فلو كان في القلب حياة، سيظل يتسائل ويتردد قبل الإقدام على أي عمل به شُبهة ... فقد قال رسول الله http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg".. والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" [صحيح مسلم]
ولكنك تقتل واعظ الله في قلبك .. عندما لا تستمع لتأنيب الضمير وتظل تبحث عن الأعذار لذنبك وتتلهى بأي شيء عن إثمك.
السؤال الخامس: هل تعرف المعروف من المنكر؟ ..
فقد وصف الرسول الله http://i31.tinypic.com/oqezgm.jpg القلب الممتليء بالمعاصي، بإنه ".. أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه"[رواه مسلم] .. فإن كانت الذنوب تملأ قلبك، فلن يُفرِّق بين الحق والباطل ولن يعرف الخير من الشر.