"انتصار" غزة
بين
قيود الإستغراق ومعالم الإنطلاق
إنا المسرات لتحدونا إليكم يا أهل الرباط في أرض غزة الأبية فكم والله غبطناكم على ما نالكم من فضل الله ومنه وأنتم أنتم الذين قال فيكم النبي صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من امتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ...فقال الصحابة وأين هم يارسول الله فقال بأبي هو وأمي: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" .
فلله دركم ولقد تجلت فيكم معاني العزة في أسمى صورها وأنتم تنافحون من قلب غزة فأدهشتم الدنيا كلها بثبات لم يشهد له التاريخ الحديث نظيرا وعز به تاريخ البشرية إلا من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكنتم بذاك خير خلف لخير سلف وإنني وأنا اتأمل الرجل يقضي من أهل بيته ثمانية والأم يقضي من أبناءها خمسة فقد عجبت لثبات الأب المصاب وصبر الأم المكلومة وكل يقول"حسبي الله ونعم الوكيل" وسرعان ما نزاح عجبي لما ذكرت قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (173) سورة آل عمران
وقوله تعالى: { وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (11) سورة الأنفال
إن النصر المؤزر هذا سيكون اكثر فاعلية وأعمق تجذرا لو وضعنا طبيعة النصر في نصابه ولا يغفل حصيف منصف ان هذا النصر الذي سنورد معالمه ونحكي انطلاقته هو مرحلي ليس نهائي كما سيأتي لاحقا .
ولكن وتقيدا مني بسياق الموضوع كونه ينقسم الى قرائتين متناقضتين وجب التزام نسقه كما هو لتسهيل البيان وإعمال أدواته وكذلك للتشويق في سرد ما أسميتها "معالم الإنطلاق" .
فما هي قيود الإستغراق:
وإنني اطلب منك اخي الكريم ان تنصت لي بقلبك وانت تمر ببصرك على سواد كتابي هذا ولتنطلق بذهنك من قيود اللفظ المعبر الى آفاق التصور المحسوس والرؤية المشاهدة لترى حقيقة القيود التي اردت سردها وكيف آلت بنا استغراقا جعلنا في غيابات جب قد لا يستدركنا في أعماقه سيارة...
وهي كما يلي:
1- النظر في واقعة غزة بنظرة قصيرة الطرف وتحليل مقتضب الأفكار يتحدث عن حرب غزة كجزء ويسهب في "الجزء" حتى اختل به ميزان "الكل" ومع اعتراضي على هذا التصور المنغلق إلا ان له ما يبرره عندي قبل ان ابادر باتهام الخائضين فيه على هذا الأساس ألا وهي "الذهنية المنهزمة" على طول الصراع مع المحتل الصهيوني منذ اربعينيات القرن الماضي وحتى اليوم وكذلك "إعمال العقل المجرد من الإيمان" وقد يطول البحث في هذين الأمرين إلا أني آثرت الإشارة في هذا المقام لها بالرغم من وجود الرغبة الجامحة في تفصيله ومعولي في ذلك على أني اتحدث الى لباب الناس "واللبيب بالإشارة يفهم".
2- الإستغراق في الأحداث خارج قراءة الشرع إلى حد بلغ بنا تجميد الأهداف السامية وتقرير الحقوق المشروعة والتذرع باختلاف موازين القوى بين العدو الصهيوني وبين المجاهدين الأباة .
3- عدم تحليل مآلات الأحداث باعتبار طبيعة المعركة العقدية بين المسلمين كطرف واليهود كطرف آخر والإنهماك في النتائج المادية وصرف النظر عن الأهداف العقدية التي تحققت حتما بأسباب إيمانية أكثر منها تدميرية ضد مصالح العدو المحتل.
4- الإستسلام للعواطف والإندفاع باتجاه الإنكار على المجاهدين في غزة بدء القصف على مستوطنات الهيود تحرجا على دماء المسلمين في غزة من بطش آلة العدو !!! ونسيان أن المعركة مذ بدأت عام 1938م لم تنته بعد فكانت باعث العاطفة إنكارا سيفا مسلطا فتح الباب واسعا امام أهل النفاق والريبة للقدح في أهل الرباط واتهامه بالعجلة وقلة الحيلة.
ولولا خوف الإطالة واستحواذ الملل على القاريء الكريم لما وسعتني هذه الإشارات البسيطة ولكن حسبي انني كما ذكرت اتحدث إلى لباب الأمة.
وبعد هذه الإشارات السريعة إليكم النقيض منها وهو أصل لا يزحزح وثابت لا يترنح ألا وهو نصر هذه الأمة وذاك يقينا لا يمكن لمؤمن ان يشك فيه طال الزمان او قصر فإن كنا أقل وأذل من ان تنتصر في جيلنا الأمة وتحيا بعدالتنا الأمم فلا أقل من الفأل الذي تسنده الحقيقة المطلقة ممثلة في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النــور
وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41) سورة الحـج
وكما تمت الإشارات لقيود الإستغراق إليكم بعض معالم الإنطلاق:
1- انسلاخ الأمة من دعاوى القومية وبطولات السياسة القطرية وإعادة قضية فلسطين إلى حضن الأمة الإسلامية لتصبح قضية المسلمين حتى لم يعد للمنافقين بد من مسايرة هذا الواقع والتسابق ولو شكلا لنصرة القضية دأبهم في ذلك دأب أبيهم بن سلول لما انتصر المؤمنون في بدر وأصبحوا ذا شوكة ومنعة "إن هذا أمر قد توجه" ولم يكن له بد من إعلان نصرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو عدو لله ولرسوله.
2- كذلك انسلاخ أهل الرباط المجاهدين من التشكي لزعماء العالم او التوسل لمؤسسات حقوق الإنسان إذ اصبح شعارهم الذي رفعوه"حسبنا الله ونعم الوكيل" وهذا مشاهد بين لكل منصف عاصر انتفاضة القدس الأولى والثانية ورأى التحول في صيغة الإستغاثة وكذلك في المستغاث به.
3- استنهاض الأمة وإعلان نفيرها الذي شاهدناه من ألمحيط إلى المحيط وكل استشعر ألم المعاناة ومرارة التضحيات التي عبر عنها المشهد بالدماء المهراقة والعبرات الرقراقة على مدى اكثر من 23 يوما محققين قول الله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (63) سورة الأنفال
4- كشف سوءة المنافقين وإرغامهم على تبني القضية والحديث عن شرعيتها بل مشروعية المقاومة والجهاد والدعوة إليها علنا أظهر معنى فريدا وصورة مثالية جديدة لم تكن حاضرة في مشهد الصراع بين المجاهدين وأليهود الغاصبين كانت أعظم دلالاتها "أن قضية فلسطين رغم جهل الجهلاء وتخذل الخاذلين وإرجاف المرجفين هي خط أحمر لم ولن يجرؤ عليه أحد حتى من رموز النفاق والشقاق " ورأينا بدو ذلك الأمر يعني أمرا واحد لا ثاني له ألا وهو"قوة المؤمنين تتجلى في إيمانهم وثباتهم على المبدأ الإسلامي أمر لم يظن مرجف او منافق او عدو ان ثمة خط رجعة لهذا الشعور بعد عقود الهزيمة العجاف وانقلاب مفاهيم كانت ثوابت يوما ما في زمن ما" ولقد وصفهم الله تعالى بقوله: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} (12) سورة الفتح. فرأينا المنافقين اندحروا ورأينا المجاهدين انقلبوا إلى أهليهم لم يمسسهم سوء وذلك فضل الله.
5- انقلبت أوروبا شرقها وغربها من ارباب الكنائس الأرثوذوكسية شرقا والكاثوليكية والبروتستانتية غربا تشيد بفلسطين عموما وعدالة قضيتها بل وتدعم المجاهدين خصوصا في صمودهم وتندب ثباتهم وتتلوا اللعنات على اليهود بل رأينا المنصفين منهم الذين احرق جواز سفره ومنهم الذي قاد مظاهرات ضد بني دينه وجلدته نصرة للحق وتكريسا لمعاني العدالة التي لن تزل في بقية منهم حتى قيام الساعة وشاهد ذلك قوله تعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (113) سورة آل عمران
وكذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (199) سورة آل عمران
وأخيرا أقول اعلموا أن من حكمة الله تعالى أن جعل اليهود في قلب الأمة الإسلامية لتكون باعثا على الحركة وتذكيرا لحقيقة الصراع فإننا وللأسف نرى في زماننا من ينكر حقيقة الصراع الأبدي السرمدي القائم على العقيدة بيننا وبين أعداء الملة من اليهود والنصارى وينسى أو يتناسى قوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } (217) سورة البقرة
وأختم بسؤال:
كيف يمكن ان يتخيل واقع الأمة وعظيم غفلتها لو لم تكن إسرائيل تحتل فلسطين؟؟؟
إنها حكمة الباري........!!!!
وباعث العقدية في قلوب ميتة لا ينعشها سوى احتلال فلسطين .........
فيا لرحمة الله كيف نراها منحة تشكلت في صورة محنة .