أيها المحسن في رمضان

يا من اجتهدت وصمت وقمت، تقبل الله منك، وزادك هدى، وآتاك تقواك، فإن كنت ممن وفقهم الله تعالى للطاعات في رمضان فقد بقي أن تدعو الله تعالى أن يقبل العمل ويجعله خالصًا، ويثيبك عليه الأجر العظيم، فإن من صفات الصالحين أنهم لا يغترون بعمل، ولا يلهيهم أمل، بل في قلوبهم وجل، يخافون بغتة الأجل.

قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قلت:

يا رسول الله؛ قول الله عز وجل: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة... {المؤمنون:60} أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل؟ قال: "لا؛ ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل". {الحاكم في المستدرك ج2 ح3486}
فيا أيها المجتهد؛

هذا حالك مهما بلغ اجتهادك،
تخاف أن لا يقبل منك، تخشى أن يكون قد خالط قلبك ما قد علمه الله جل وعلا، فابذل فيما بقي من عمرك المزيد عسى أن تفوز يوم المزيد لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد {ق:35}.

وعليك أيها المجتهد أن تكون حذرًا

كما قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم... {النساء:70} فالحذر من مسببات الهلاك التي تجتمع على العبد حتى تهلكه، ومن هذه المسببات احتقار الذنب،
واستصغار الخطيئة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "

إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه". {رواه أحمد} وفي رواية الحاكم: "فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه". {صحيح الجامع 2686}
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من صغائر الذنوب لأن صغارها أسباب تؤدي إلى ارتكاب كبارها، كما أن صغار الطاعات أسباب مؤدية إلى تحري كبارها، وإن الله يعذب من شاء على الصغير، ويغفر لمن شاء الكبير ويعفو عن كثير. وضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء أحدهم بعود، وغيره بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه، يعني أن الصغائر إذا اجتمعت ولم تُكَفَّر أهلكت، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم الكبائر لندرة وقوعها من الصدر الأول وشدة تحرزهم عنها، فأنذرهم مما قد لا يكترثون به، والصغيرة تصير كبيرة بأسباب منها الاستصغار والإصرار، فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله، وكلما استصغره عظم عند الله، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب منه وكراهته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به، واستصغاره يصدر عن الألفة به وذلك يوجب شدة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعة، والمحذور تسويده بالمعصية. وقد كان السلف رضوان الله عليهم مع تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم شديدي الاحتراز من الصغائر،


إيمانا منهم بما قاله الله جل وعلا:

وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم {النور:15} قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر؛ وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات". {البخاري ج5 ح6127}
وعن بلال بن سعد قال: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت".
{سير أعلام النبلاء 5-91}

يقول ابن القيم رحمه الله: "

وها هنا نكتة دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب؛ وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال، وقد يتأخر تأثيره فيُنسى، وسبحان الله كم أهلكت هذه النكتة من الخلق! وكم أزالت من نعمة؟ وكم جلبت من نقمة؟ وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء، فضلاً عن الجهال، ولم يعلم المغتر أن الذنب ينقض ولو بعد حين، كما ينقض السم، وكما ينقض الجرح المندمل على الغش والدغل.
وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه: اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم في الموتى، واعلموا أن قليلاً يغنيكم خير من كثير يطغيكم، واعلموا أن البر لا يبلى، وأن الإثم لا يُنسى، هذا مع أن للذنب نقدًا معجلا لا يتأخر عنه، قال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته، وقال ذو النون: من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية". {الجواب الكافي}
فانتبه يا من وُفِّقْتَ في رمضان للطاعة من الشيطان أن يغتالك، وعن الطاعة يجتالك.


أيها المسيء في رمضان

إن من رحمة الخالق الجليل أن منحنا مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بإثبات المعصية، وتدوين الخطيئة. قال صلى الله عليه وسلم : "وإن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت واحدة". {السلسلة الصحيحة 1201}
فلا تكن ممن لا يرجون لله وقارًا، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهارًا، فهيا إلى التوبة النصوح، فباب التوبة مفتوح، وراقب الله أينما تغدو وتروح، ولا تقنط من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، فأسرع ولا تتردد، ولا تقل: ذنوبي كثيرة لا يصلح معها التوبة، فلم أدع نوعًا من الفواحش إلا اقترفته، ولا ذنبا إلا ارتكبته، فإن الله يجيبك بقوله: "يا ابن آدم؛ لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني؛ غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم؛ لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".
{صحيح الجامع}
بل إن الله تعالى يفرح بتوبة العاصي إليه مهما كان معاندًا شقيًا، وجبارًا عتيًا،

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، والله؛ لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول". {مسلم} فهنيئًا لك التوبة إذا صدقت الله وأخلصت له.
تقبل الله منا ومنكم صيامنا وقيامنا وصدقتنا ودعائنا وصالح اعمالنا
وثبتنا على طاعته ورضاه بعدرمضان
وكل عام وانتم بخير وعافيه
والى الله أقرب وأتقى