بقايا الجثث على الطريق أثارت حزن الامير ة فأقسمت ألاّ يموت حاج من العطش
درب زبيدة..مشروع أدخل امرأة في موسوعة العظماء

جولة: عبدالله دراج
لم تكن زبيدة بنت جعفر الأكبر بن أبي جعفر المنصور زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد عندما عزمت على الحج الى بيت الحرام عام 184 هجري (800 م) لم تكن تتوقع ان تتحول سفرتها تلك الى قطعة من المشقة والعذاب..
ولم تكن تتوقع وهي الأميرة وزوجة الخليفة ان تشارف على الموت عطشا في الصحراء الممتدة من بغداد الى مكة المكرمة رغم حجم الاهتمام الذي حظي به موكبها من حيث الإعداد والتجهيز وتوفير كل ما تحتاجه وما لا تحتاجه هي ومن معها في الموكب المهيب من حرس وخدم وحاشية ومرافقين..

كان لسان حال زبيدة إذ ذاك يردد وهي على هودجها الوثير:
هذا وأنا ابنة الخلفاء وزوجة الخليفة هارون الرشيد فما بال العامة والضعفاء والمساكين.
واستحال قولها هاجسا يسكنها ويقض مضجعها ، وألما يوجع قلبها الذي مزقته صور حية مؤلمة لبقايا جثث الحجاج الذين فارقوا الحياة نتيجة الظمأ ولهيب الشمس الحارقة فضلا عما أصابها من وعثاء ونصب وإرهاق وضعف بسبب قلة الماء وكآبة المنظر وطول الطريق.
القرار التاريخي
لم تنتظر زبيدة.. ولم تفكر كثيرا.. ولم تتردد.. فأصدرت من لحظتها تلك قرارا تاريخيا تقضي مضامينه وأهدافه بوضع حد لمعاناة حجاج بيت الله الحرام في كل موسم.. وأعقبت القرار بقسم غليظ لن ينساه التاريخ :
( اقسم بالله العظيم أن أعمل على أن لا يموت حاج من العطش بعد اليوم )
أما كيف.. فقد أسندته زبيدة إلى ذوي الاختصاص.
فما إن وضعت اقدامها في قصرها في بغداد بعد إن أتمت المناسك حتى أمرت باجتماع عاجل يضم كبار المستشارين والمهندسين المعماريين والجيولوجيين الذين اشتهرت بهم الدولة العباسية ، وأكدت فيما يبدو على ألا يضم الاجتماع أيا من المثبطين والمترددين من اصحاب ( حيث ، ولكن ) ادراكا منها بحجم المشروع وصعوبة تنفيذه وطبيعة الجهود التي ستبذل فيه ، وتأكيدا مبطنا على أن لا سبيل أو عذر أمام أي احد سوى تنفيذه مهما كلف من مال وجهد ووقت.
ولم يمض وقت طويل حتى شرع كبار المهندسين المعماريين آنذاك في بناء اكبر مشروع من نوعه في ذلك التاريخ لرعاية الحجاج وسقايتهم والاهتمام بهم حيث انطلق تنفيذ درب زبيدة للربط بين الكوفة و مكة المكرمة بطول يبلغ 1500 كيلومتر عبر أشد المناطق شحاً بالمياه في العالم. ورهنت زبيدة مالها وجهدها وأفنت شبابها في متابعة المشروع حتى انتهى ومن ثم تعهده بالرعاية والإهتمام بعد انجازه الى إن فارقت الحياة في بغداد عام جمادى الأولى سنة 216هـ وهي أعظم نساء عصرها ديناً وأصلاً وجمالاً وصيانة ومعروفاً تاركة وراءها ارثا انسانيا وتاريخيا خالدا وصفه ابن جبير بقوله وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة، هي آثار زبيدة ابنة جعفر، انتدبت لذلك مدة حياتها، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها حتى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذه الطريق )
مشروع عملاق
تم تصميم المشروع على اسس معمارية ولوجستية حديثة حيث بدء العمل بشق الطرق وإنشاء البرك وحفر الآبار وتشييد النزل والأستراحات على الدرب ابتداء من نقطة انطلاقته في الكوفة وانتهاء بمكة المكرمة والمشاعر المقدسة حيث توجت السيدة زبيدة مشروعها العظيم في منى وعرفات من خلال انشاء الأستراحات وأحواض المياه وحفرت الآبار وأمرت المهندسين بجلب المياه من الجبال المحيطة بمكة وعبر قنوات أرضية صنعت خصيصا لنقل المياه إلى بركة كبيرة داخل مكة أطلق عليها بركة زبيدة وتضمن المشروع بناء شبكة هائلة من خزانات الماء تبدأ من الكوفة (قرب المدينة الحديثة في النجف جنوب العراق)، مروراً برفح (الحدود الشمالية) ثم بعد ذلك فايد (حائل)، العمارة قرب عنيزة (القصيم). ومن هناك توجهت نحو الجنوب الغربي، مستمرة عبر الصحراء إلى المدينة ومكة.
حفر الآبار والبرك
وتم تحديد مساره بطريقة علمية وهندسية متميزة و حددت اتجاهاته وأقيمت على امتداده المحطات والمنازل والاستراحات ورصفت ارضية الطريق بالحجارة في المناطق الرملية والموحلة ونظف الطريق من الجلاميد الصخرية والعوائق في المناطق الوعرة والصخرية وزود الطريق بالمرافق الضرورية من منشآت مائية كالسدود والابار والبرك واقيمت على امتداد الطريق العلامات التي توضح مسار الطريق كالأعلام والمنارات والاميال (احجار المسافة) والصوى والمشاعل والمواقيد ليهتدي بها المسافرون ليلا ونهارا وراعى المشروع العملاق ان تتوزع الآبار وخزانات المياه على طول الطريق بحيث تبعد الواحدة عن الأخرى حوالى 40 كيلومتراً والربط بينها من خلال نظام هندسي فريد من قنوات المياه. و اوضحت الدراسات الاثرية ان المنشآت المعمارية على طريق حج الكوفة- مكة تمثل نمطا معماريا فريدا للعمارة الاسلامية المبكرة في جزيرة العرب ويتمثل ذلك في اسلوب التخطيط المعماري والوظائف المختلفة للمباني التي تميزت بسماكة الجدران والابراج وتزويدها بخزانات لحفظ مياه الشرب كما اشتملت المحطات على الاسواق والحمامات العامة وعيون وسدود وخانات ومساجد وغير ذلك من المرافق الأساسية وهو ماتم توثيقه على الأرض.
ففي عام 1975، شكل الدكتور عبد الله المسري، أول مدير لدائرة المتاحف والآثار، فريقاً من الباحثين لتسجيل وحفظ طريق الحج العظيم حيث تم رصد وتوثيق 87 موقعاً أثرياً ضمت جوامع و حصوناً أو قصوراً، ووحدات سكنية وخزانات مياه رئيسية.
يقول أستاذ التاريخ أحمد مرشد : بدأ العمل في درب (زبيدة) في النصف الأول من القرن الثاني الهجري 134هـ واستمر الدرب شرياناً يتدفق عبره الحجاج طوال ثلاثة عشر قرناً. وكانت البداية من الكوفة وينتهي إلى مكة المكرمة وطوله 1300 كيلو متر منها 250 كيلو متراً في منطقة المهد، ويقطع الحاج المسافة في شهر أو يزيد يمضي منها ستة أيام في قطع منطقة المهد، وأصبح في العصر العباسي الأول مجالاً للتسابق في أعمال الخير بين الخلفاء، من بينها تسجيل علامات الأميال على الطريق وبناء المنارات وإبقاء النار عليها لهداية الحجاج ليلاً. ويبدأ الدرب من الكوفة حتى يصل منطقة المهد، وأولى المحطات في المنطقة هي «العمق» أو «بئر العمق»، فبعد خروج الدرب من السليلة الواقعة خارج منطقة المهد على بعد 18 ميلاً شمال شرق «العمق» يتجه درب زبيدة نحو الجنوب ليصل إلى العمق، والتي مثلت واحداً من أهم منازل الحجاج طيلة 13 قرناً، وخصّها الخلفاء العباسيون بعناية فائقة فحفروا فيها الآبار وشيدوا وبنوا فيها قصراً ومسجداً.
شبكة طرق
ويضيف مرشد : «من الآثار الموجودة حالياً بقايا برك وفوهات آبار واسعة جداً، ويوجد مسجد لم يبق منه إلا رموس بطول 15 متراً وبعرض 13 متراً وبسفح الجبل المطل على البلدة من الشرق توجد آثار السوق ومعظم المساكن القديمة». ويقول: «تشير المصادر إلى أن هذا الطريق يسير بعد العمق نحو الجنوب ليصل إلى غار زبيدة ثم إلى جبل صايد ثم إلى هضب الشرار ثم يسير إلى المحطات الرئيسة على الدرب بين العمق والمهد أو معدن بني سالم كما يطلق عليه سابقاً، ثم يسير إلى الجنوب الغربي حتى يصل منطقة الجريسبة أو ما كان يعرف ببستان أم صالح، وتم تحويل الطريق إليها فترة من الزمن لأن هذا اقرب بميل واحد».

منقول - عكاظ