إن مما يكرس حقيقة أزمتنا الفكرية اليوم هم أولئك الذين يملكون الخلفية الشرعية في طبيعة تفكيرهم كما أنهم يستغلون استفاضة العلم عنهم في أوساط المجتمع فتجدهم يعضدون أقوالهم بأدلة من الكتاب أو السنة فيتصدرون قوائم الإفتاء ليس على الصعيد الفقهي المختزل في الشؤون الفردية فحسب فهذا امر احسنوا فيه الى حد ما ولكن اللغط عندهم قد بدا أثره في إقحام أنفسهم في مغالطات اخذت شكل الفتوى تارة والرأي تارة أخرى عندما جردوا الفتاوى الجزئية الخاصة التي قد يكون لها ارتباط وثيق بالبعد المتعلق بأهداف الأمة وطموحاتها بمعنى"المقاصد الكلية للشريعة" فقالوا بها وأفتوا على أنها جزء مجرد من سواه والخطر هنا يكمن فيما إذا اصبحت طريقة الفتاوى المقتبسة للجزئيات المرتبطة بالكليات منجها في الفتاوى وسلوكا عمليا يجد فيه كل لاعب وناعق ومحارب لله ورسوله سبيله من خلالها ولن يكون إن فعل ذلك محط نقد ومسائلة أمام المجتمع لأنه وببساطه سيكتفي بالقول إن العلامة أو الشيخ "فلان بن فلان" قد أفتى بهذا ففي الفتاوى المجردة من الإطار العام الذي توضع فيه يمكن القول أن حكمة الله ومقتضى ما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم سيكون محل التناقض ومدعاة الجدال بانتهاج هذا الأسلوب القاصر كما هو الحال اليوم وستنتفي حكمة الشارع في التعامل مع الجزء بمنأى عن الكل إذ أن دين الله اتى ليحقق أهدافا في الحياة جزئها وهو الإنسان أو الفرد وكلها وهوالمجتمع لترسم منهاجا واضح المعالم حاسم المعاني في دلالاته بحيث لا يقع اللبس فيها او لا تحمل على غير محملها الذي وردت فيه خصوصا في هذا الوقت الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى أن يكون العلماء والمفكرون أكثر انضباطا في أفكارهم وفتاواهم لأن المترصدين لهم كثر وبهذا الأصل سيغلق الباب على كثير من أولئك الذين كانوا يجدوا بغيتهم في هذه التناقضات ولو كان المكسب الوحيد عندهم حينئذ ان يضرب القرآن بعضه ببعض وفي ذلك شدد النهي لحكمة اقتضاها الباريء وأتت أيضا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .


وقد يخطر سؤال :


ما هو الضابط في تقرير القول الصحيح وماهو معياره؟؟


فأقول وببساطه معياره وضابطه هو النظر للمقاصد الكلية في ضوء الواقع الذي يراد الإفتاء فيه تحليلا أو تحريما استحبابا أو كراهة وكل هذه الأحكام المتعبد بها تعطي مرونة أكبر في إصدار الأحكام بحسب الواقع مع مراعاة المقاصد خصوصا في الأمور التي لا يوجد فيها نص قطعي الدلالة والأئمة والفقهاء قد بينوا ذلك وأظهروه بما لا يدع مجالا للزيادة فيه فما قرروه إضافة الى الأحكام الخمسة أو السبعة من القواعد الفقهية دليل على وعيهم لتطور الواقع وتجدد المرحلة وهكذا دين الله عظيم في استيعابه الواقع الحاضر وتعاطيه مع جديد المستقبل بكل مرونة .


وإن سياسة النظرة القصيرة والأفق الضيق قد تكون أيسر وأسهل للمتخاذل في اصدار حكم هكذا بدون تقصي عموم الحال التي يجب على الحصيف ان يتابعها وان لا يتسرع في الحكم بدون تثبت في معطيات الواقع ومع التعاطي بهذه الصورة نرى ازمة الفكر في الإسلام ظهرت وشاعت ليس على صعيد المفكرين والعلماء وإن كان هذا نادر في حق المخلصين منهم ولكن فساد الفكر ايضا قد انتشر بين الناس وذلك مما يجب أن لا يهمل بأي حال من الأحوال سيما في ثوابت الدين التي هي الفصل بين الإيمان والكفر وأنا أشير الى العامة اليوم وفسادهم الفكري في سوادهم الأعظم لأني أعلم يقينا ومن خلال دراسة الواقع والممارسة أن مالم يكن واجبا العلم به في العقدين الماضيين ومما كان ينظر إليه أنه من علوم الخاصة من طلبة العلم بات فرض عين عليهم وذلك لأننا طفقنا نرى القنوات الفضائية بدأت تلعب دورها وتعمل ببرامجها في عقول الناس ليس على صعيد الترف وضياع الوقت فحسب بل تطور الأمر حتى بلغ من المسلسات وبرامج الأطفال الكرتوني وغيرها حدا يقدح في العقائد بالتفاف وبدون مواجهة ورأينا هذا ظاهرا في سلوكيات كثير ممن هم مظنة الفطنة والتبصر فضلا عن النساء والأطفال المساكين.


إن الأمة اليوم ومن خلال واقعها المؤلم هي بين مطرقة الشهوة المشاعة وسندان البدعة المذاعة ثم نجدها وهي في أمس الحاجة للصامدين الثابتين أولي العزم من رجالات عصرها الذين ما إن اتجهت الأنظار إليهم تستجدي فيهم النصرة وتطمع في قيادتهم الى المعالي السامقة حتى فاجؤوها بمراجعات وتغيرات اشبه ما توصف به أنها إعلان عام بالهزيمة من اولئك الذين كانوا هم مظنة الفرج وطوق النجاة فإن كان هذا واقع الصفوة "وأنا هنا لا أعمم" ضياعا وتخبطا تارة وبراءة من الماضي المجيد لهم تارة أخرى فأين ياترى يجد العامة والدهماء الحق وكيف يستشرفوه ؟!!


إن حال أولئك قد أشبه المهرج فكما هم تلونوا في أرائهم وأفكارهم الى حد جمع المتناقضين وهذا مشاهد في سلوكيات البعض منهم فلم يدعوا بدا من أن يضحكوا عليهم المتفرجين .


وهنا ومن خلال الإستقراء والواقع نجد أن المفكرين "الإسلاميين" المعاصرين يمكن تصنيفهم كل بحسبه وبأهدافه كما يلي:


1- المستشرقين وهم الغربيون الذين درسوا الإسلام وتبحروا في علومه ليس لغاية إلا القدح فيه وقذف الشبهات.


2- التغريبيون الذين تأثروا بالفكر الغربي وحادوا عن الطريق تحت وطأة الإنبهار بما عند الغرب والهزيمة النفسية التي سببها جهلهم بالدين وعدم معرفة الفرق بين صراع المادة الذي تفوق فيه الغرب وصراع القيم الذي لا يزال الإسلام "كمنهج" ينتصر فيه .


3- مجتهدون قد يخطئوا ويصيبوا ونعذرهم في اجتهادهم لأن اثر الخطأ عندهم لم يتخطى حدود المنهج العام وقد يقبل منهم تعاطيهم مع الجزء الى حد يكون أوسع من غيره كالذي سيأتي معنا لأنهم لم ينصبوا أنفسهم دعاة أمة وليس لهم إرث صدامي في الحق فنفعهم أكثر من ضرهم .


4- مجتهدون كالصنف الثالث الذي ذكرناه يخطئوا ويصيبوا وليسوا معذورون في خطأهم العام الذي يرسم معالم المنهج الجديد الذي اتخذوه وأثرخطأهم الذي يرتكبونه قد يكون كارثي بمعنى الكلمة وذلك أنهم نصبوا أنفسهم لقضايا الأمة وتصدروا تحقيق أهدافها فتعاطيهم مع الجزء المجرد قد يكون له تداعياته وآثاره لأنهم يمتلكون إرثا عظيما لطالما زاد مصداقيتهم امام العامة وأعلى مكانتهم ويظهر جرمهم في تعاطيهم مع الجزء مع نفي الماضي والبراءة منه والتدرج حتى بلغوا حد نقده "وهذا الصنف هو اخطر الأصناف ".


5- مجتهدون كسابقهم الثالث والرابع يخطئوا ويصيبوا ويعذرون في خطأهم العام في حدوده الممكنة لأنهم لم يزالوا ثابتين على منهجهم القديم ثبوت المؤمن المتيقن بنصر الله وما عند الله فكان الثبات على الماضي من المنهج يعطي لهم القبول في الطاعة والتلقي منهم عند العامة كما يوسع دائرة الخطأ في الشأن العام كما ذكرنا في إطاره الذي لم يبلغ به حدا تستحيل منه الرجعة أو يخل بأهداف القضية ومتطلباتها.


6- مجتهدون سابقون ثابتون في سبيل المنهج وكان ضريبة الثبات أن بذلوا نفوسهم رخيصة في ذات الله وفي إعلاء دينه فرحمهم الله رحمة واسعة.