قال تعالى : فذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين
عدم الشماتة والتكبر والمباهاة بالنعمة على من هو دونه الشماتة ليست من صفات المسلم الملتزم بالأخلاق الإسلامية. فلقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) عن الشماتة، حيث يقول: «لا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك»(405). والشماتة من صفات النفس الظالمة الحقودة. فالله فضَّل الطعام بعضه على بعض في الأكل، كما فضَّل الناس بعضهم على بعض في الرزق، وهذا التفضيل ليس تفضيلاً عبثياً أو كيدياً، حاشا لله، بل هو خاضع لمشيئة الله الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب في السماوات والأرض. وقد يكون في بسط الرزق ابتلاء من الله عز وجل، وامتحان أشد صعوبة، لأن فيه غواية أكبر ومقدمة للوقوع في المعصية. كما أنه من الممكن أن يكون في التضييق حكمة لا يعلمها إلا الله، كالحماية من الوقوع في شرك المعاصي.

لذلك فقد نهى الإسلام عن الشماتة بمن هو دونك في النعمة عموماً، وليس فقط في الرزق، إذ لا تجوز الشماتة بمن لم يرزقه الله الذرية، أو لم يرزقه الصحة أو العلم. وكان النهي عن إظهارها قولاً وعملاً وحركات مباشرة أو غير مباشرة حتى لا يؤذي شعور الإنسان المبتلى، خصوصاً أن الابتلاء قد يكون لحكمة ربانية، وتفجيراً لطاقات مميزة أخرى عند المبتلى.
كذلك فإن من صفات المسلم الصدق والنقاء والتواضع وعدم المباهاة أو التفاخر بما أنعم الله عليه، وعدم الادعاء بما ليس له، فهو يُحَدِّثُ بما أنعم الله به عليه من دون كذب أو تكبر أو خيلاء، ويسعى جاهداً لأن يؤدي هذه النعم حقها حتى يكون من الشاكرين، وهو دائماً ينسبها إلى المنعم الأول.

كما نهى الإسلام عن التكبر عموماً، نهياً زاجراً قوياً ففي القرآن الكريم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء: 36] ، و { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [لقمان: 18] . ويقول رسول الله (ص) في ما يرويه عن ربه: «يقول الله سبحانه: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منها قذفته في النار»(406).

وقد تختلف أسباب الكبرياء عند الإنسان فمنها ما هو مرتبط بالنَّسَبِ أو بالشكل والجمال أو بموهبة معينة، وكلُّ هذه نعم من الله منَّ بها على عبده ليس للعبد فيها أي دور أو إرادة. ومن أسباب الكبرياء ما هو مرتبط بنعمة أنعمها الله على العبد مباشرة، كالمال والعلم والصحة والذرية والسلطة والقدرات الشخصية، أو بعضها، وهي كلها أو بعضها حصل عليها ربما بجهد ذاتي، ولكن أيضاً وأساساً بتوفيق وتيسير من الله عز وجل، وكم من الناس غيره سعى إليها وبذل من الجهد ما يفوقه ويزيد عنه، وكان نصيبه من هذه النعم أقل بكثير. لذلك كان على الإنسان أن يرجع بالنعمة دائماً إلى أصلها وإلى منعمها وبارئها وهو الله الخالق البارئ المصور.

وقد ورد النهي عن الكبر في آيات عديدة في القرآن الكريم، نذكر منها قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] ، وقوله تعالى: { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } [الفرقان: 21] . وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله أنه قال: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين؛ فيصيبه ما أصابهم»(407).

فالكبر أول ما يصيب النفس، «فيرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره...»، فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك، فتلك الهزة والركون إلى الاعتقاد هو خُلُقُ الكبر(408). ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أعوذ بك من نفخة الكبرياء».

والتكبر على العباد يكون بأن يستعظم الإنسان نفسه ويستحقر غيره، فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم، وقد يصيب هذا المرض كل صاحب نعمة عظَّم نفسه بها عن الآخرين. عن أبي أمامة (ر) قال: عيّر أبو ذر بلالاً بأمه، فقال: يا ابن السوداء، وإن بلالاً أتى رسول الله (ص) فأخبره فغضب، فجاء أبو ذر ولم يشعر، فأعرض عنه النبي فقال: ما أعرضك عني إلا شيء بلغك يا رسول الله، قال: أنت الذي تعيّر بلالاً بأمه. قال النبي (ص): «والذي أنزل الكتاب على محمد -أو ما شاء الله أن يحلف-، ما لأحد على أحد فضل إلا بعمل إن أنتم إلا كصف الصاع»(409).

وعن معاذ بن جبل (ر) قال: «انتسب رجلان من بني إسرائيل على عهد موسى ـ مسلم والآخر مشرك ـ، فانتسب المشرك فقال: أنا فلان بن فلان حتى بلغ تسعة آباء، ثم قال لصاحبه: انتسب لا أم لك. قال: أنا فلان، بن فلان وأنا بريء مما وراء ذلك، فنادى موسى عليه السلام الناس فجمعهم ثم قال: قد قضى بينكما، أما الذي انتسب إلى تسعة آباء فأنت فوقهم العاشر في النار، وأما الذي انتسب إلى أبويه، فأنت امرؤ من أهل الإسلام»(410).

أما في النعم التي يبرز فيها جهد الإنسان وسعيه؛ فإن الإصابة بمرض التكبر تكون أكثر نفاذاً وتأثيراً في النفس، فينسى ربه وينسى شكره، ويعتقد أنه حصل على ما حصل عليه، بعلمه وحساباته وسعيه وتدبيره وعرق جبينه، وهذا ما يصيب الناس في النعم الخاصة، كالعلم والمال والسلطان وغيرها.

فالعالم الذي يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل من بقية الناس، عليه أن يخاف على نفسه، لأن العلم يزيد صاحبه خيفة من الله وتواضعاً وخشوعاً له سبحانه، يقول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، ولذلك وجب على العالم أن يرى كل الناس خيراً منه، لأنه يعلم عظيم حجة الله عليه بالعلم، ومدى تقصيره في القيام بشكر نعمة العلم(411). يقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «الجاهل المتعلم شبيه بالعالم، والعالم المتعسف (الجائر) شبيه بالجاهل»(412). وقيل للحسن البصري (ر): «من شَرُّ الناس؟ قال: الذي يرى أنه خيرهم». ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم»(413).

أما التكبر بالمال والأولاد، فقد ضرب الله له مثلاً في القرآن الكريم في سورة الكهف في الحوار بين الرجلين حيث يقول الأول متباهياً بالنعم: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] ، فأصابه الغرور والبطر، ونسي المنعم وشكره على ما أعطاه، فأنكر الساعة، ولم ينفعه تذكير صاحبه ونصحه له بقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ? إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى? رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 39ـ 41] . وعندما أصابه القحط، وذهاب الثمر، وأصبحت الجنة خاوية على عروشها، استدرك وندم، ولكن بعد فوات الأوان وقال: {يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42].

كما يضرب القرآن مثلاً آخر في من أصابه الغرور بما آتاه الله من مال، وهو قارون، حيث يقول الله تعالى فيه: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? فَبَغَى? عَلَيْهِمْ ? وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] ، فقد كانت ثروة قارون ضخمة جداً، حتى أن مجموعة من الرجال الأقوياء لا يستطيعون حمل مفاتيح خزائن كنوزه. ولكنه كان باغياً طاغياً في قومه، فنصحه الناصحون بألا يفرح ولا يزهو ولا يبطر ولا يغتر ولا يتباهى ويتطاول بماله وسلطانه على الناس، لأن الله لا يحب ذلك. ويتابع الناصحون قولهم لقارون في نصيحة إلهية خالدة صالحة لكل عصر وقوم: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ? وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ? وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ? وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

فالأولوية في العمل يجب أن تكون أولاً للغاية الأسمى في الوجود، وهي الدار الآخرة، ففيها يوم الحساب الأكبر، يومها ستعرض الأعمال كلها على رب العباد، ليجزي كل نفس بما كسبت، وبما عملت. ومع ذلك لم يمنعه عن دار الدنيا فقال له فيها: {وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . فالله خلق الطيبات من الرزق ليتمتع الناس بها مأكلاً وملبساً. ومركباً وكل ما أحل الله، وكل ما هو زينة، فقد أخرجه الله لعباده ليأخذوا منه قسطاً في الحياة الدنيا إن استطاعوا أو أرادوا، فتنمو الحياة بذلك وتزدهر، وتتحقق خلافة الإنسان في الأرض وعمارته لها كما أمره الله، وأراده لذلك، ثم قال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ، تذكير آخر بأنَّ المالَ مالُ الله، أَحْسَنَ به إلى الإنسان، فيجب عليه ألاّ يستأثر به، فليقابل الإحسان بالإحسان، والعطاء بالعطاء، والنعمة بالشكر، {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} وإياك أن تطغى بنعمة الله، فَتُفْسِدها، والفساد قد يكون بالبغي والظلم، كما قد يكون بالإسراف في التمتع أو التبذير، أو بالإمساك عن الإنفاق والبخل والتقتير.

أما جواب قارون على هذه النصيحة الإلهية الخالدة فكان قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ، أي أنه ليس مغتراً بماله فقط، بل أصابه الغرور في قدرته الخاصة وبعلمه الخاص، وذكائه الشخصي، وأن ذلك هو سبب غناه. فقد فتنه المال، وأعمته الثروة، فنسي المنعم ومصدر النعمة، ونسي ما أصاب مَنْ قَبْلَهُ ممن جمعوا الثروات والكنوز، وكانوا أشد منه قوة وأكثر جمعاً، يقول تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِي ? أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ? وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78].

وعندما كان يخرج على قومه متكبراً متجبراً، كان ضعاف النفوس ومحبو الدنيا على الآخرة، يتمنون لأنفسهم مثل ما لقارون، أما المؤمنون الموقنون برحمة ربهم، فكانوا يقولون: {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} . يقول تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى? قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ? قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 79 ـ 80].

وكانت النتيجة: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ } [القصص: 81] ، أي بلحظة واحدة، وبأمر الله الذي يقول للشيء «كن فيكون»، ذهبت الثروة والدار وذهب قارون معهما، فأدرك الذين تمنَّوا مكانه بالأمس أن مطلق القدرة هي لله وحده. يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، فهو وحده الخالق القادر الرازق المنعم: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ? لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ? وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82].

يروى أن أحد الحكماء كان يقول: «عندي صديقان: صديق ابتلاه الله بداء عضال فقلت: شفاه الله، وصديق ابتلاه الله بالغرور، فقلت: رحمه الله».


عسى الله أن ينفع به