محطات في حياة شيخي محمد علي بن جماح يرحمه الله
بقلم : د.سعيد بن ناصر الغامدي
رحل هذه الليلة السابع والعشرون من شهر رجب سنة 1430 حوالي الساعة السابعة مساءاً أحد أكابر أعلام بلاد غامد وزهران ، الشيخ العالم الداعية محمد بن علي بن محمد آل جماح الغامدي ، علم الأعلام في بلاد غامد وزهران ، وشيخ المعلمين ، وأستاذ الدعاة، عن عمر يناهز التسعين أو يربو عليها ، عاش رحمه الله حميداً عالي الذكر بالخير ، مشهورا بين الناس بالفضل ، سعيدا بالدعوة الى الله ونشر العلم النافع ، صابرا في سبيل ذلك، وكان صاحب شخصية مؤثرة له سمت حسن وصوت مهيب وصورة جميلة وهيبة ووقار ، وذكاء نافذ وبصيرة وفراسة ، وقد متعه الله بصحة جيدة ، حتى تعلل في سنواته الأخيرة ببعض علة في القلب ، و لم يوقفه ذلك عن العمل الخيري ، والبذل في ذلك حتى آخر ساعة من عمره المبارك ، حيث كان قبيل وفاته بساعتين أو نحوها في اجتماع لجنة الموارد في جمعية تحفيظ القرآن في مدينة بلجرشي
ومن أراد أن يكتب تاريخ منطقة الباحة في هذا العصر – وخاصة في الجانب التعليمي والدعوي - لابد أن يذكر المدرسة السلفية ومؤسسها الشيخ بن جماح رحمه الله ، وهي المدرسة التي امتد اثرها في بلاد غامد وزهران وبني عمر وخثعم وبلقرن وبني شهر ، ووصل تأثير دعاتها إلى بقاع كثيرة من البلدان التهامية والبدوية المصاقبة لبلاد غامد
أخذ الشيخ القرآن أولا على يد والده الشاعر الحكيم الشهير ذائع الصيت في بلادنا علي جماح المتوفى سنة 1366رحمه الله ، ثم تتلمذ على يد الشيخ الفقيه علي بن ابراهيم المداني واخذ عنه الفقه الشافعي والنحو وغيرهما ولما بلغ عمره اثني عشر عاما أهداه احد اقاربه كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فحفظه وتأثر بما حواه من علم ودليل وصفاء وعودة الى الينابيع الأولى الصافية ، وأثر في صياغة شخصيته العلمية كما سيظهر فيما بعد
سافر الى الحبشة بمعية أخيه الكبير لطلب الرزق ، وفيها تعرف على جملة من علماء مصر من الأزهر ، وتأثر كثيرا بعلماء ودعاة جماعة أنصار السنة المحمدية المصريين الذين فتحوا في بلاد الحبشة مدرسة لتعليم ابناء المسلمين ، وكان هذا التأثر بهم له أثر في صياغة شخصيته العملية بعد عودته الى بلاده واجتهاده في نشر العلم والدعوة
عاد الشيخ وهو فتى ينضح بالحيوية والنشاط وقد اكتسب الخبرة ورأى أجناسا من الناس وعلم أنه لا مجال لإصلاح أحوال البلاد والعباد الا بالدعوة الى الله والتعليم فوضع أسس دعوته في ورقة و بحث عن أفاضل الناس من أهل بلجرشي وخاصة من أصدقاء والده وعرض عليهم البدء بحركة دعوية سلفية ، مستلهما ما كتبه الشيخ محمد حامد الفقي في حركته السلفية بمصر ، فوافقوه ووقعوا على مقترحه ، وكان يرى أن العمل للإسلام لا ينجح بشكل جيد إلا بوضع طريقة إدارية يسير عليها ، وأستمر هذا دأبه حتى آخر حياته ، وكان مما تضمنه الإتفاق مع هؤلاء الافاضل وضع رئيس لهم وأمين صندوق ووقتا اسبوعيا للاجتماع وتدارس الأمور والمستجدات ، واتفقوا على ألا يدعوا الناس الى خير الا وقد فعلوه هم ، ولا ينهون الناس عن شر الا وقد بدأوا بتركه ، ثم تحركوا في محيطهم ونشطوا ، وكما هو المتوقع دائما فقد حصلت لهم عوائق ، فاستعاض الشيخ بن جماح عن هذا النشاط الدعوي، بإنشاء مدرسة لتعليم أبناء العشيرة الأقربين ، وكانت هذه نواة المدرسة السلفية وذلك في عام 1370وفتح المدرسة في قرية القرى في منزل الأخوين الوجيهين الكريمين: عبدالله بن سعيد وأخيه صالح بعد معاناة شديدة للحصول على المكان إلا أنه لم يلتحق بالمدرسة طلاب سوى أبناء الأعضاء ، وبذل في سبيل اقناع الشباب بالدراسة جهدا كبيرا ، ومن ذلك أنه كان في قرية (المكارمة) إمرأة من أهل القرآن تدعى : زهرة بنت محمد الأعمى غفر الله لها، وكان عندها ما يقارب (25) طالباً تعلمهم القرآن الكريم ، فطلبهم الشيخ بن جماح منها على أن يعوضها ببنات تقوم بتعليمهن فوافقت إلا أن الطلبة تلكأوا بسبب دعايات مضادة للشيخ ودعوته ، ولكنه قرر لهم درساً ، وفي نهايته كان يخرج بهم إلى البر ويمارس معهم بعض الألعاب الشعبية حتى ألفوه، فأخذهم وعوض المعلمة زهرة ببنات أكثر منهم عددا فسرت بذلك، رحمها الله وأعلى درجتها في عليين.
وكان الشيخ بن جماح يعمل في هذه المدرسة مديراً ومعلماً وخادماً ، وأختار نخبة من المتعلمين الأفاضل المحتسبين لكي يعملوا معه في المدرسة، ولم يلبث توقف حركة الدعوة إلى الله تعالى في المساجد والأسواق والمناسبات سوى أشهر فقط ، حتى تم إعداد الطلبة الأذكياء ، وقاموا بدور كبير بالدعوة في بيوتهم وعشيرتهم وكان الشيخ يعدهم علميا وعمليا ويملي عليهم نصائح وتوجيهات ، ويقوم بتوزيعهم على مساجد القرى وجوامعها ، وقوبلت الدعوة على ألسنتهم بالقبول والمحبة والرغبة ، واستؤنف عمل الدعوة من الإساتذة الكبار الذين كانوا في معية الطلاب الصغار مساندين لهم ومؤيدين.
ومن المدرسة بدأ التحرك الدعوي مرة أخرى،على غرار ما فعله أنصار السنة المصريين الذين التقى بهم في الحبشة ، مراعيا فارق الأوضاع والأعراف ، ومستفيدا من اندهاش الناس بجودة أداء الطلاب الصغار ، فوسع نطاق دعوته حتى وصلوا بيشة وضواحيها وبلاد خثعم وشمران وعليان وبلقرن وبني عمرو وبني شهر وحتى عسير وأحد رفيدة ، و قد أثمر هذا التحرك انتشار صيت المدرسة السلفية واحتشاد الطلاب من قبائل ومناطق عديدة للدراسة فيها
واقتضى ذلك البحث في قضية بناء بيت للطلاب المهاجرين لطلب العلم وبناء مدرسة واسعة ، فكان ذلك في قرية الشعبة (قرية أسرة الغمد شيوخ شمل غامد) وساعد أعيان وتجار غامد في جدة وغيرها في بناء المدرسة السلفية والتي هي المدرسة الأولى - فيما أظن- في بلاد غامد وزهران
وفي أثناء زيارة الملك سعود رحمه الله للمنطقة سنة 1374 خص المدرسة السلفية بزيارة وأقيم فيها حفل كبير له ، ولما أطلع على ما تقوم به من دور وما تضطلع به من مهام تعليمية وتربوية ودعوية أمر بدعمها سنويا بمبلغ يسلم للشيخ من وزارة المالية
فشجع ذلك الدعم المادي والمعنوي من الملك أن يقوم الشيح بن جماح بافتتاح عدة فروع للمدرسة السلفية :فرعان لتعليم البنات في بلجرشي (وهي أول مدارس نظامية للبنات في المنطقة) وفرع في قرية (الأبنا) جنوب بلجرشي ، وفرع في بني حسن من بلاد زهران ، ثم إنتقل الى قرية النصباء ، ثم لما قصرت النفقة وضعفت المساعدات ، وأفتتح التعليم النظامي توقفت هذه الفروع ، وبقيت المدرسة الأصل في بلجرشي مستمرة بوصفها مدرسة أهلية خيرية يدعمها اهل الاحسان وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، وصارت المدرسة فيما بعد تحتوي على المراحل الثلاث الابتدائي والمتوسط والثانوي ، وبقيت كذلك حتى تحولت عام 1411 الى مدرسة حكومية ، وبقي لمؤسسها الشيخ بن جماح حق النظارة الشرعية والاشراف
ومما اشتغل به الشيخ رحمه الله إضافة الى التعليم والدعوة الى الله تعالى تعليم القرآن وتحفيظه ومن أوائل ذلك فتحه الحلقات لذلك عام 1370،ثم زادت عام 1380، ثم لما أسست جمعية لتحفيظ القرآن في بلجرشي كان مشاركا ومشجعا ومؤيدا ، وفي سنة 1409 أنتخب رئيسا لها فصير اسمها (الجمعية الخيرية السلفية لتحفيظ القرآن في محافظة بلجرشي وتوابعها) ونشطت وأصبح لها عدة فروع وتخرج فيها عددا غير قليل من الحفاظ وبقي مشتغلا في شأن تعليم وتحفيظ القرآن حتى قبيل وفاته بساعات
وقد ترك الشيخ من الأبناء – في حد علمي - عليا وعبد المنعم ، وترك من التلاميذ عددا كبيرا ، وقد درست على يديه في المدرسة السلفية مادة الفروسية وكان المنهج علميا وعمليا اما العلمي فكان كتاب ابن القيم الفروسية ، وأما العملي فكان منه تعلم السباحة وفنونا أخرى ، وتخرجت فيها من الابتدائية 1390-1391، وقد درس فيها والدي رحمه الله قبلي وتخرج فيها في نحو عام 1380 ودرس فيها جدي لأمي عثمان بن مرشد الشهري رحمه الله وأتى بعائلته وبابنه من بلاد بني شهر ليدرس في السلفية ، ولهذا قلت هو شيخي وشيخ أبي وشيخ جدي ، وأعرف جملة من الأعيان المعروفين ممن تخرجوا في هذه المدرسة ومنهم على سبيل المثال استاذي الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي إمام المسجد النبوي ، والشيخ داوود العلواني العمري ، والشيخ عبد الهادي العلواني ، والشيخ عبد الله بن مجدوع القرني وشقيقه ، والشيخ الدكتور سالم بن محمد القرني ، والتاجر المعروف علي المجدوعي وآخرون لا يتسع المجال لحصرهم هنا
أما زملاؤه ومعاونوه في التعليم في السلفية وفي الدعوة الى الله تعالى فكثير أذكر منهم الشيخ سعيد الدعجاني ، والشيخ سعد بن حجر ، والشيخ ناصر بن سعفة ، والشيخ عبدالله ابو علامة بن محمد الفقيه ، والشيخ علي بن جنيدي ، والشيخ ناصر بن مغرم ، والشيخ علي بن مغرم ، ومن أسرة (الغمد)الشيخ أحمد بن سعيد البدوي ، والشيخ عبدان بن علي ، والشيخ عبد العزيز بن سعيد وابنه سعيد بن عبد العزيز
أما محبوه والمتأثرون به والمعجبون بشخصيته وعلمه فأكثر من أن يحصيهم العد ، ولذلك عم الحزن بفقده وتناقل التعازي بينهم بموته،فكل يعزي الآخر في ذلك ؛ لأنه فقيد الجميع ، أسأل الله تعالى له الرحمة والرضوان والعفو والغفران ، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبهكتبه
سعيد بن ناصر الغامدي 28/07/1430 كوالالمبور
مواقع النشر (المفضلة)