تتجلى فاعلية الفكر العربي في تبعيته للمجتمع الغربي مما نتج عنه انفتاح الصراع المجتمعي والفكري بين أقطاب المجتمع بين مؤيد للإنفتاح وبين متشرنق على ذاته وهذا يعني انحلال روابط التضامن الداخلي ومؤشر لوجود هوة ترتب عليها ذوبان الهوية في مياه التغيير السائد للمجتمع المحافظ مما يوجد مقابلة غير سوية تفرز الترهل الأخلاقي غير المنضبط حين تغيب القوانين والتشريعات الضابطة لهذا المجتمع المتغير والمتمرد على نفسه وعاداته وتقاليده والجامح للتقدم والحضارة والتناسق والتناغم مع مفردات المادة .
وإن هذه الانفجاريات الذاتية ومايجيش في المجتمع من رغبة في التمرد على الفكر الصحوي الذي كان يملي عليها بكرة وعشيا مفرداته وإيدليوجيته المحافظة التي يرى بها النجاة برؤية أحادية وروحية نسي بها مع حماسته التوازن البشري السنة الكونية التي أمرت بعمارة الأرض والسير والنظر والتفكر والتدبر وإعمال العقل !
" وابتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا "
وبفرض الوصاية عليهم والتفكير بدلا عنهم " وتحجير الواسع " ضاقت بهم الأحكام ذرعا " بفرضيات " سد باب الذريعة " وتقاليد الكفار " " ودفع المفسدة " وغيرها من القواعد الفقهية التي تنزل على أحكام الله بداعي الغيرة على دين الله ..
مع أن الرسالة المحمدية أتت " بالرحمة والتيسير " والحنيفية السمحة " وسددوا وقاربوا " والقصد القصد تبلغوا " ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم من " التشدد والتنطع في الدين والغلو " فقد جاء في الحديث " ما شاد أحد الدين إلا غلبه "
ولعل من مظاهر ذلك التشدد غلبة الواقع وغبش الرؤية في الأحكام وليست قضية " الأسهم والسندات " ببعيدة وقضايا " التأمين " ومنتجات المكياج ومانتج عنها من ضجيج واستبداد في الرأي والأقيسة الخاطئة التي تمزج بين المتناقضات بطابع الاحتمالية والرؤية النسبية مما زال به كل يقين أو موقف إيجابي تجاه الفكر الصحوي الذي يدعو إلى التشرنق على الذات "والانطواء على النفس والتخلي عن كل موقف إيجابي تجاه الواقع والخلود إلى موقف السلبية الشاملة المتجسدة في رفض الذات برفض كل جديد وفي رفض الآخر ومنتجاته وغياب فاعلية كل المثل الكبرى الباعثة للأمل والحث على العمل وتحفيز الإرادة وقطع الشكوك الظنية والاحتمالية المجهضة للحاضر والمستقبل "
وبمثل هذه المعطيات في المشهد المجتمعي تقصف الإمكانات الكامنة واستشراف المستقبل بالانصياع للإلف والتطابق والتشرذم على الذات دون تبصر للعيوب والمدخلات القاصرة بجدلية عقيمة تختزل الأحداث وتستحوذ على الفكر والعقل بكسل ذهني بليد يبتسر القضايا بصور جزئية تتشنج بشيء من المنطق والأحكام المرجوحة والظنية وتعطي العقل إجازة مفتوحة تشده للماضي بقوالب جامدة محنطة لاتتسق مع الواقع والتتابع الزمني الذي يفرض نفسه ويبغي متطلباته مما يشكل ضغطاً نفسياً وماديا على كل مسلم يبتغي رضى الله والدار الآخرة .
وفي وسط هذا الجو المشحون بالمشكلات والمعوقات والعقبات والمتطلبات الدنيوية وانفتاح المجتمع على ثقافات متعددة ذات صبغة مادية بحته تهاوت كثير من النفوس وضعف إيمانها واصبحت تبحر في فلك يموج بها في موج كالجبال ولامنقذ لها إلا " كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم " أن يتمسكوا بها ويعضوا عليها بالنواجذ ويتركوا كل بدعة وظلالة " ولكن من يفسر لهم كتاب الله من ينزل الأحكام والمستجدات بفقه واقعي يتنزل مع حاجة الناس ومتطلباتها بالمباح والتيسير والنظرة الواقعية التي تتلمس حاجة الناس والضرورات الملحة التي تأزم بها الواقع .
مما زاد من مظاهر ردود الفعال والتطرف الفكري والتبرم من كل جديد ونبذه ومعاداته بضيق أفق وحيرة ويأس وانسداد في السب الكفيلة بحتوائه والتعاطي معه وتحويله من مفسدة إلى منفعه كما هو الحال مع " القنوات الفضائية " التي كنا يوما ما "ربما نكفر مستخدميها " أو نسلب منهم الإيمان والرجوله " وحين قلبنا الوجه المنفعل وضربنا عنه صفحا فإذا به تلاقي للحضارات وأرض خصبة للدعوة إلى دين الله والتبشير به والدعوة إليه !
إن زاوية النظر الحادة والقصور الذاتي ولدت في بيئة محافظة وبنية فكرية كانت سائدة لم تعش هذا العصر ومتطلباته وتحدياته ومع هذا لازلنا نرسف في أغلالها بمحك مرجعي يسبح ضد التيار بمسلك متأزم معلق في الفراغ يوشك أن يسقط على نفسه !
وإن المعيار الموضوعي هو أن الإنسان حصاد مايعرفه وإن التمدد المادي والحضاري كائن لامحاله وهو سنة كونية وتدافع يصلح ولايفسد ولكن المرتكز الأساس هو الفصل بين الثوابت والمتغيرات في زمن التدافع الحضاري .
والتعاطي مع المستجدات بلا تكيس أو تشرنق أو عزل بين المثير والاستجابة أو تنميط كل شيء بقاعدة فقهية تجهض الإمكانات وتفرز المزيد من المشكلات ولنا في دين الله فسحة
إن الإغراق في التفاصيل والجزئيات والسؤال عن كل شي من التنطع " لاتسألو عن أشياء إن تبدى لكم تسوؤكم " وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخشون الإكثار على رسول الله ويعجبهم أن يأتي الأعراب للسؤال !
إن فضاء الركود والسكون يشكل خطاً بيانيا لمزيد من المشكلات الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية في شتى مناحي الحياة .
وإن مرحلة الانحناء والتصدع وتراكم المشكلات لاتكون إلا حين نقف على حافة التاريخ وهامش الحياة ننتظر المنقذ والمخلص .
وقد أدى هذا الجمود والتشرنق إلى خروج " الليبرالية " من جحورهم يتناسلون ويتغامزون ووجدوها فرصة سانحة حين ضاقت الأرض بالناس وضاقت أنفسهم من تلك التساؤلات المعلقة في الفراغ مع هذه المستجدات النازلة في زمن الماديات والعولمة والتجارة الحرة التي تنشر ثقافتها بالقوة الاقتصادية والأحكام والتشريعات التجارية التي ىتحدها حدود ولاسدود .
وكأني بهم يقولون " سلوهم " إن كانوا ينطقون .. لإنهم بكل بساطة لهم الآن الغلبة والسطوة والقوة حين أحسوا بتزعزع المجتمع وسكرته وهرولته للتقدم والحضارة مع حيرته وضغط واقعه وتلك الضرورات المادية والمشكلات التي حلت به !
ففتح الباب على مصراعية " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " فقد تداعت كثير من الرموز وتساقطت على قارعة الطريق وخرج الأمر من يديها بمهارة رهط في المدينة يفسدون ولايصلحون ففقدت ثلة مؤمنة إرادتها الجماعية وضعفت عن السيطرة والإقناع وجاء الصريخ ينادي بالحضارة والخروج على تيار الصحوة المتشدد الذي يشد الناس إلى الخلف ويسير بهم في عربة التخلف للعيش في أحضان الماضي والناس تشدهم تلك الحضارة المبهرة التي يحسونها والتي ذهبوا إليها في سياحتهم وتعاطوا معها وتعايشوا معها في تلك القنوات والشبكات العنكبوتية .
وفي هذا الجو المشحون تعاطى الناس مع تلك الأطروحات الجديدة بشيء من الفرح لأنهم بكل بساطة يتعاطون مع حاجات الناس ومتطلباتهم المادية والإنسانية ويقترحون عليهم الحلول ويأخذون بأيديهم إلى فرص العمل وتحقيق الذات .
وهذه سنة كونية " تقضي بأن السلطة إذا ضعفت تحلل أصحابها منها وأن الحزب إذا هرم تبرأت أطرافه منه " وأن الدعوة إذا لم تستطع التعاطي مع حاجات الناس وتجيب على تساؤلاتهم وابتعدت عنهم كثر المناهضون لها وابتعد الناس عنها حتى لاتسمع لهم ركزا !
وعند غياب الرؤية الواضحة تصبح قناعة الجاهلين منبعاً للعرفان وإدعاء المطالبين والمتعالين رؤية ونبوة ومصدر فخر وعزة .
ومن أسباب مانراه اليوم من انفراط الحبل والانحباس الفكري هو غياب الوعي بالمشكلات والابعاد الاجتماعية والاقتصادية وغياب الرؤية الواضحة والتصور السليم والتفسير المقنع الذي يخلق إرادة الفعل ويفتح أفق العمل ويبعث في الإنسان الأمل .
حتى يتغلب الفرد على نفسه ومشكلاته ويتعاطى مع واقعه فهو كائن حي له متطلبات وإرادة وفعل ومصالح اجتماعية واقتصادية وأنفس تتجاذبه لمزيد من الفرح والمتعة والتعايش مع الواقع في زمن المتغيرات السريعة والتقدم الصناعي الهائل .
فهذا الشقاق الثقافي الماثل فينا مشكلات قديمة تفجرت في زمن المتغيرات السريعة التي استوعبت العقول والعواطف حتى أتت على الأخضر واليابس واشرأبت لها القلوب والأعناق وأطلت الفتنة برأسها ومصادر التلقي بيننا قد أصابها الجمود والخمول والتقليد ومساحات الحركة والتجديد تتسع وعامل التنوع والثراء يتقاطر على القلوب وهوامش الحرية والحارات الكونية تتقارب وهذه هي سنة التدافع والمحصلة النهائية إما انكماش حضاري ولحظة تفريغ لمفردات صماء تنحسر بالذات عن ثورية التحديث في كينونتنا الثقافية واستيعاب الأوعية الحضارية .
وإما ثورة فكرية وانشطار يصيب أفراد المجتمع بشظايا التغيير بلا ضابط أو معيار قيمي.
إن الحراك الاجتماعي في المشهد الثقافي يؤذن بانفجاريات فكرية انشطارية بين القطبين القطب المحافظ والقطب المنفتح وبينهما " حبل " ممدود بين شد وجذب والرابح من بيده القوة والمنعة ليشد الآخر إلى ساحته حتى يقطع لتتساقط كثير من الأنفس في حمئة الفتن والانفتاح بلا حدود وتلك هي استحقاقات الزمن الماضي الذي كان بيد المحافظين ولم يستغلوه حتى يستوي على ساقه ويؤتي أكله كل حين .
إن السبات الطويل والعيش على هامش العصر والتعاطي مع الحقائق والمعطيات بأحادية ووصاية في خطابنا الإسلامي دعى كثير من أفراد المجتمع إلى النكوص على عقبيه والبحث عن بدائل أخرى وقدوات من المفكرين والعلماء والدعاة الذين فتحوا لهم أبواب السماحة في كل شي للنفاذ إلى الواقع والتعايش معه بواقعية على نحو منطقي تتجلى فيه الفاعلية والتعاطي مع الواقع والضرورات .
وإن العيش داخل العصر مطلب شرعي وحضاري " أنتم أعلم بأمور دينكم " هكذا يزينون لهم العوائق الثقافية والعزلة الشعورية بنوع من جلد الضمير بمفردات نبوية لصالح المبدأ العام والامتثال لما هو سائد .
نحن اليوم بحاجة لمراجعة خطابنا الإسلامي وشطب إدراكات الحواس والمسافات الزمنية واستقراء الواقع وتنزيل الأحكام عليه حتى لافتن الناس في دينهم وهو " صالح لكل زمان ومكان " " والذي هو تبيان لكل شي " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" فأين الخلل إذاً !!
إن الخلل في فهمنا لدين الله في جمودنا وتقليدنا لمذاهب فقهية وآراء لرجال يحتمل منهم الحق والخطأ .. ولسنا بهذا نطلب تبديل دين الله أو تغيير الثوابت مقابل المتغيرات وإنما المطلب هو الفصل بين الثابت والمتغير في الأحكام أو إسقاط القاعدة بالمثال الشاذ وتعميم الافتراض وتقديس الأشخاص على حساب المبدأ والبرهان .
نحن اليوم بحاجة للهروب إلى الواقع والتعايش مع المشكلات بمنهج استقرائي لايخلط بين الواقع والمثال أو يجر الزمن إلى العيش في أمة قد خلت في معاملاتها ومشكلاتها.
وحين نفعل ذلك يتفاعل المجتمع وينبذ تلك الرمزيات الفكرية الدخيلة التي تريد أن تبدل كلام الله حتى يتأزم الواقع في صراع ثقافي يفقد الأمة هويتها .
وإن استيعاب الواقع ونقده عطاء ثقافي وحماية له من التخشب والتصدع واستغلال مساحات الفراغ لملئها بإطروحات فكرية دخيلة تملئ الكأس الفارغ والمساحة الحرة المتداولة بين كل ناعق ..!
وليس معنى هذا إباحة الانهيار الداخلي والقيمي كما تدعوا لها الإيديولوجيات الثورية الليبرالية التي تعتقد بأنها تتضمن " النفي الفلسفي القاطع والعلمي للأخلاق وأنها تمهد الطريق أمام الحرية المطلقة والشاملة على الأرض ، وتبشر بزوال كل عامل قمع أو إكراه داخلي أو خارجي ... واستفزاز الجماعة بخرق المحرمات . فمن دواعي التقدمية مثلا تعاطي ما يمنعه المجتمع أو تحرمه الأديان ، ومن دواعي الثورة الليبرالية التمرد على القيم الاجتماعية والآداب العامة . ولانبالغ إذا قلنا إن فكرة الالتزام بمبادئ وقيم أخلاقية أصبحت غريبة عن الوعي المحدث ، بل ربما دفعت إلى اتهامه بالمحافظة ومسايرة الأوساط الدينية "ولربما رجم بالرجعية والسطحية والسذاجة .
" وتصدر عن هذا التصور للحرية أنماط غريبة من السلوك الفردي والجمعي قائمة على إباحة الفرد لنفسه أو لجماعته انتهاك حقوق الآخرين ، وإنكاره عليهم كل مايبيحه لنفسه وأترابه .
وما ينطبق على الفرد في علاقته مع الأفراد الآخرين من تبرير للغش والنفاق والازدواجية والاحتيال ، ينطبق بصورة أخرى على المؤسسات في معاملتها للمجتمع فهي تبيح لنفسها كل ماتنكره على غيرها تحكم بالقوة وتعتبر استخدام القوة جريمة تخرق القانون وتطالب الآخرين بحترامه"
لايمكن أذن للمجتمع المدني أن يقوم بدون نظام أخلاقي ، لكن ما هو أصل ومصدر هذه الفكرة المترسخة في الوعي العربي الحديث حول نسخ العلم والحضارة العلمية عامة للأخلاق كمنظومة اجتماعية ، أي كيف جرت عقلنة هذا النسخ حتى أصبح انعدام الأخلاق يعني التقدم ؟
في اعتقادنا أن مصدر هذه الفكرة هي الفلسفة الوضعية ذاتها التي ترى في العلم هدف كل تقدم ، وتنظر إليه باعتباره النمط الأعلى ، أو المرحلة الأخيرة لتطور الوعي البشري . وأن هذا التطور قد قفضى على كل أشكال الوعي الأخرى ، أو حل محلها ، فأصبح في الوقت نفسه علما وأخلاقا وأدباً . فكل ماهو غير علمي ، أو لا يمت إلى العلم بصلة هو من بقايا الماضي ومن مخلفات الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي والإيديولوجي والفلسفي " الديني " ولابد أن يزول لأنه رمز التخلف وعقبة أمام انتصار الإنسانية النهائي . إن العلم قد جب ماقبله ، والتقدم جب الأخلاق . أو نسخها وأفقدها قيمتها فإذا كان التقدم يعني زوال الأخلاق فإن من المنطقي أن تصبح إزالة الأخلاق رمز التقدم "
"إن المشكلة الأساسية في التعاطي مع الحضارة هي الصراع بين " الحداثة والتقليد " والمعاصرة والأصالة وفي هذا الجو اختلطت التحليلات بين من ينكر على الثقافة العربية احتواءها على قيم التقدم والتغيير ، ومن يؤكد فيها على عناصر هذا التقدم ، وبين من يدعو إلى تجاوزها وإقصائها عن موقعها الاجتماعي المتميز ، ومن يطالب بإحيائها وتدعيم مركزها ضمن الجماعة القومية ، وبين من يرفضها كقاعدة للتقدم ، ومن يقبلها كأساس له ، ومن يرفضها كلية ويقبلها كلية ، ومن يقبل جزاءاً منها وينكر جزاءاً آخر .
وفي هذا الصراع تنحو دعوة الأصالة إلى توحيد نفسها بالدين ، بينما تنحو دعوة الحداثة إلى مطابقة ذاتها مع العلم وتتطابق الهوية مع الذاتية ويخفض التراث إلى جانبه الديني ، وتتطابق الحداثة مع الحضارة ، وتنخفض المدنية إلى طابعها التقني .
هكذا كان ويكون الصراع بين الهوية والمعاصرة ، والدين والعلم والتقدم والمحافظة مركز تفجر أزمة المجتمع العربي وأداة تفريغها وحلها الوهمي في الوقت نفسه "
نحن بحاجة لنخرج من أرضية التراشق والمماحكة العقلية إلى منطقة الوعي وعزل الذات عن الموضوع للخروج برؤية كلية حضارية لمواجهة الأزمة مع الذات مقابل الحضارة والتعاطي معها " والانطلاق من الصراعات والمشكلات الكبرى التي تضعنا فيها هذه الأزمة حتى نستطيع أن نلم بكل معالم المسألة ونحيط بها من جميع أبعادها ولهذا علينا أن نخرج من منطقة الصراع الفكري بين القطبين إلى مابعد الإشكالات ونلتفت للنهضة الحضارية الممكنة لما سوف نكون عليه في المستقبل حتى تكون أمة الإسلام عملة صعبة لها مكانتها العالمية في قلب المدن الحضارية والكتل الاقتصادية .
فلنا العزة والنصر والتمكين حين نبذل أسبابها وسننها الكونية " إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "
ونخلص إلى تعزيز قيمة الذاتية في شخصية المسلم والمساهمة الإيجابية واستدعاء المعرفة وتجسيد هذا الشعور في المنظومة الروحية "فالذاتية تعني التطور بما يبقيها على صلة مستمرة مع الماضي والتراث ويجعل لها جذوراً عميقة وقوية في التاريخ ويفترض تحويل كل مايدخل فيها إلى جزء منها حتى تحفظ وحدتها وتوازنها ، والمعاصرة تعني في كل زمان ومكان استيعاب الحضارة ومايتطلبه ذلك من تبادل وأخذ عن الآخر وتلقف للإبداعات والاكتشافات البشرية والمادية والروحية .
فالمطلب هو انتاج حلول أفضل للمشاكل التي خلقتها الحضارة القائمة ذاتها فمن المستحيل حل مشكلات البلاد النامية الاقتصادية والسياسية والثقافية من منظور المؤسسات الغربية الموجودة اليوم .. فالصراع من أجل استيعاب الحضارة الراهنة هو شرط تجاوزها لن يتوقف في العالم العربي ولن يخمد مهما حصل من مقاومات جزئية هنا وهناك .
وإن الصراع من أجل تأكيد الذات وتأهيل الحضارة وإخضاعها لمتطلبات المجتمع لن يتوقف هو أيضاً ، مالم تتحقق للعرب المشاركة في الحضارة من موقع الإبداع والمساهمة الايجابية لامن موقع التبعية والاستهلاك .
وهذا يعني أن أزمة العقل العربي نابعة هي نفسها من أزمة الفعل العربي ، وهي مظهر من مظاهر الوجود خارج الذات أو لغير الذات ، ولايمكن نشوء وعي يتجاوز هذا التناقض ويوحده إلا بقدر ماتتقدم قضية النهضة الحضارية ، وتؤسس لواقع العرب التاريخي . وقاعدة هذه النهضة هي دون شك النقلة الصناعية .
وإمكانية حصول مثل هذا هو وقف التعارض والتناحر بين التراث والحداثة وليس إبعاد الطرف الآخر فمثل هذا الإقصاء يؤسس لحرب أهلية أو كامنة تستلب الذات وجوهر الممكن والوعي بالذات .
وهذا الوعي يوجد اعترافاً بأن هناك أزمة حضارية تجعل هناك تعارضاً بين تحقيق الهوية وتحقيق الحضارة وبين التراث والخداثة الرالهنة وان هذا التعارض يخلق انشقاقاً في المجتمع وليس هناك مايمنع من التمازج والتدافع وبناء الحوار الذي يستوعب الجميع لتحقيق النهضة باستمرار الذات واستملاك الحضارة في الوقت نفسه والنهضة تفترض عدم تعارض مطلب الهوية والعالمية بل إنها لاتتحقق إلا باستمرار وجودهما كقطبي جذب دائمين فالنهضة هي مشروع تحقيق الذات العربية والاسلامية بما هي هوية حضارية وحضارية ذاتية فالنهضة تعني الابداع والابداع هو مجال تحقيق الذاتية العربية ومشروعهما معاً .
وهذا يعني أن حركتي البحث عن الهوية واكتشافها والاندفاع وراء الحضارة وتأهيلها هما حركتان تكمل واحدتهما الأخرى . فمبدأ الحضارة والتعلق بها يصون الجماعة من خطر التحول إلى ركام قديم لاصلة لها ولمؤسساتها بالتاريخ وبالحركة الابداعية العالمية ومبدأ الهوية يصون الجماعة من الانحلال والاندماج في الآخر ومن ثم الاندثار كجماعة متميزة ومستقلة وفي صراعهما تنبع إمكانيات تحول الحضارة إلى مدنية ويتحول التراث إلى هوية ديناميكية حية ومتجددة أي إلى ذات فاعلة إيجابية