يتبع

وذاك غاد يغدو لإهلاك نفسه فيسلط لسانه ويسلط سنانه ويسلط قلمه في النيل من المسلمين بالسخرية بهم والاستهزاء بدين الله والاستهزاء بعباد الله والاستهزاء بشعائر الله ليرتكب أعظم جريمة ألا وهي الدعوة إلى الظلام فيكون عليه وزره ووزر من أضله إلي يوم القيامة وفوق ذلك يبوء بالكفر الذي يقوده إلى النار. في غزوة تبوك يوم اتجه المسلمون مع قائدهم صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من <المدينة> حوالي ألف كيلو في صحار في وقت حار بلغ بهم الجهد مبلغه حتى أن أحدهم في ليلة من الليالي قام يبول فسمع صوت جلد تحت بوله فما كان إلا أن نفضه من البول ثم أشعل النار ووضعه فيها وأكله من شدة ما يلاقي من الجوع وتأتي ثلة منهم ليسخروا برسول الله وبأصحابه فيقلون ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أجبن عند اللقاء يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويأتي الكلام من الله عز وجل إلى رسوله ويسري الخبر بينهم فيلحقون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقولون (إنما كنا نخوض ونلعب) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بكلام الله (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم من بعد إيمانكم) ، يغدو أحدهم فيكتب كلاماً يسب فيه الإله سبحانه وتعالى يقول
لم يبق من كتب السماء كتاب *** مات الإله وعاشت الأنصاب
جل الله سبحانه تعالى ثم يستهزئ ثم يسخر ويظن أنه لن يقف بين يدي الله جل وعلا لكن
إذا عير الطائي بالبخل ما در *** وعير قسا بالفهاهة باقل
وقال السها للشمس أنت كثيفة *** وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة كئيبة *** ثم يا نفس جدي إن دهرك هازل

آخر يغدو ليعتق نفسه فيدعو الناس إلى توحيد الله ويدعو الناس إلى ما فيه الخير بقلمه وبلسانه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه من أمة الأمر والنهي وأنتم يا أهل هذه القرية البعيدة عن صخب المدينة وعما يحدث في المدنية من الفساد إنكم لتغبطون على قريتكم هذه بين هذه الجبال وإنكم لتغبطون على مثل هذا الاجتماع فالله الله لا تسكتوا على منكر الله الله سلطوا ألسنتكم في الأمر بالمعروف كونوا جبهة ضد كل مفسد فوالله ما يمكن أن تسعد هذه البلدة ولا تسعد أي بلدة في بلاد الدنيا إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بـ قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فلنأمر في بيوتنا ولنأمر في شوارعنا ولننهى عن المنكر أياً كان المنكر لأن الله عز وجل رتب النجاة للذين ينهون عن السوء (وأنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) يوم تأمر بالمعروف ويوم تنهى عن المنكر فيستجيب لك واحد يكون لك مثل أجره لا ينقص من أجره شئ ثم إن الله يهدي بك الضال فيكون لك من الأجور الشيء الكثير "لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" أتريد رحمة الله يا عبد الله اسمع ماذا قال الله (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله) أسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .

وذاك غاد في دنياه ويصاب بمصيبة فيوبق نفسه ويهلكها فيتسخط من قضاء الله وقدره ويعترض على قدر الله ما علم أن المصائب ترفع الدرجات لمن احتسبها عند الله سبحانه وتعالى وما علم أن الله مع الصابرين يصاب في دنياه فيكسر دينه
وكل كسر لعل الله جابره *** وما لكسر قناة الدين جبران
يقول عند الصدمة الأولى يوم يصاب في حبيب أو قريب أو في نفسه لما يا رب يعترض على قضاء الله ويعترض على قدر الله يشق الجيب ويلطم الخد ويدعو بالويل ويدعو بالثبور يدعو بعظائم الأمور على نفسه والملائكة في تلك اللحظة تقول آمين آمين فالمصيبة مصيبتان لا هو احتسب هذه وإنما أصبحت مصيبته بفقد حبيبه ومصيبته الأخرى بضياع الأجر في تلك اللحظة والمحروم من حرم الثواب وأنا أسأل سؤالاً يا أيها الأحبة هل سيعود ميت إن مات والله ما سمعنا أن ميتا مات فعاد لكنه ذهب ونحن على الأثر إن للموت أخذة تسبق اللمح بالبصر هاهو أحد السلف شاب من شباب السلف كانت له زوجة صالحة وكان له أولاد ثم حلت به سكرات الموت التي لابد أن يعاني كل واحد منا هذه السكرات ونسأل الله أن يهونها علينا وعلى كل مسلم في تلك اللحظات التي يذعن فيها الإنسان ويخضع ويذل لله عز وجل أياً كان هذا الرجل مات فوجدت عليه زوجته وجداً عظيماً ووجد عليه أولاده وحزنوا حزناً عظيماً فأقسمت زوجته لتبكين عليه عاماً كاملاً وهذا ليس من عمل الإسلام هذا جذع وهذا تسخط وهذا اعتراض على قضاء الله وقدره فأخذت أولادها وأخذت خيمة لها وذهبت ونصبتها عند قبره وبقيت عاماً كاملا تبكي وأولاده الصغار حول قبره ما خرج إليهم فكلمهم بكلمة ما خرج إلى زوجته وقال أحسنت أو قال اذهبي ووالله لو خرج لقال لا إله إلا الله أو الحمد لله أو سبحان الله لأنه لا ينفعه في القبر إلا مثل هذه الكلمات والله لو كلم أبناءه بكلمة واحدة لسكن الناس كلهم المقابر يكلموا أحبابهم وأخواتهم وأصحابهم وأولادهم فما منا واحد إلا وله في القبر عزيز أي عزيز لكن قد حيل بينهم وبين ما يشتهون ، بقيت سنة كاملة وفي آخر السنة طوت خيمتها وأخذت أولادها وجاءت راجعة مع الغروب إلى بيتها لا تجد جدوى من جلوسها سنة كاملة وإذا بهاتف يهتف بها ويقول هل وجدوا ما فقدوا هل وجدوا ما فقدوا وإذا بهاتف آخر يرد ويقول ما وجدوا ما فقدوا بل يئسوا فانقلبوا ووالله لن يرجع ميت يا أيها الأحبة فما على الإنسان إلا أن يحتسب في تلك اللحظات ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفقد ابنه [إبراهيم] الصغير فلذة كبده فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم دمعت عينه وتأثر قلبه لكنه ما قال إلا ما يرضي ربه صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة قال "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" ها هي إحدى بناته صلى الله عليه وسلم كانت في يوم من الأيام لها ولد في النزع الأخير في سكرات الموت فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وقالت أخبره أن ابني في النزع لِيَحْضُرَه ، فأخبره فقال "مرها فلتصبر ولتحستب لله ما أخذ وله ما أبقى وكل شئ عنده بأجل مسمى". [يعقوب] عليه السلام يفقد حبيبه وابنه وفلذة كبده [يوسف] عليه السلام مدة أربعين عاماً فيصبر لا يشكو إلى أحد وإنما يشكو إلى الله (وإنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) أما الآخر فيغدو ليعتق نفسه يصاب بالمصيبة فيحتسبها عند الله كما سمعتم من هذا الذي ذكرت الآن فيعوضه الله ويبشره الله (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإن إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المفلحون) في صحيح [البخاري] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل "ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" ويا له من جزاء ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وعند [الترمذي] "أن الله عز جل يقول للملائكة قبضتم ابن عبدي المؤمن قبضتم روح ابن عبدي المؤمن وهو أعلم سبحانه وتعالى ، قبضتم ثمرة فؤاده قالوا نعم قال فماذا قال ، قالوا حمدك واسترجع قال الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون قال الله ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد "(وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ذكر [الذهبي] [وابن كثير] عليهما رحمة الله أن [عروة بن الزبير] أحد علماء المدينة والذي كان يقطع يومه صائماً غالباً ويقطع ليله قائماً ويختم القرآن في كل أربع ليالي مرة أخذ ابنه وسافر في يوم من الأيام وأصابته الآكلة في رجل قدمه وهو ما يسمى الآن بالسرطان أصابه في قدمه فجاءوا به إلى الأطباء فقالوا نقطعها من القدم قال لكني أنتظر واصبر واحتسب فصعدت الآكلة إلى الساق فقالوا نقطعها من الركبة قال لكني انتظر وأصبر وأحتسب فدخلت إلى الفخذ فقالوا يخشى عليك قال الله المستعان سلمت أمري لله فافعلوا ما شئتم فجاء الأطباء وتجمعوا بمناشيرهم وجاءوا ليس لديهم مخدر كما لدينا الآن ما عندهم إلا كأس الخمر جاءوا له بكأس خمر قالوا له اشرب هذا عله أن يذهب عقلك فلا تحس بألم القطع فصاح وقال عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من الخمر لا والله لكن إذا أنا توضأت ووقفت بين يدي الله وقمت لأصلي وسبحت مع آيات الله البينات فافعلوا برجلي ما شئتم توضأ ووقف بين يدي الله وجمعوا مناشيرهم وسبح مع آيات الله البينات وقاموا يقطعون في رجله بالمناشير والدماء تنزف وإذ به يخر مغشياً عليه وفي تلك اللحظة كان ابنه محمد وراء ناقة من النوق يطاردها فرفسته فأماتته مصيبتان في آن واحد آفاق من غيبوبته فقالوا له أحسن الله عزائك في ابنك [محمد] وأحسن الله عزائك في رجلك فقال الحمد لله رب العالمين أولاً وآخر وظاهراً وباطناً إن لله وإنا إليه راجعون اللهم يا رب إن كنت أخذت فقد أعطيت أعطيتني أربعة من الولد وأخذت واحدا فلك الحمد أولاً وآخر وظاهراً وباطناً وأعطيتني أربعة من الأطراف فأخذت واحداً فلك الحمد أولاً وآخر وظاهراً وباطناً صبر وأي صبر وبشر الصابرين سمع به [الوليد] فطلب أن يأتي إليه فذهب إليه في قصره ودخل على [الوليد] وجلس عند [الوليد] وبه من الهم ما به لكنه فوض أمره إلى الله جل وعلا ، فجاء طفل صغير من أطفال [الوليد] وقال ما أصاب عروة ما أصابه إلا بذنب أصابه فقال لا والله
ما نديت كفي لريبة ولا *** حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني سمعي ولا بصري لها *** ولا قادني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة *** من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي
لعله يتسلى به فخرجوا يبحثون فإذا هم برجل أعمى يتلمس الطريق بجانب قصر الخليفة فأدخلوه ويوم أدخلوه على الخليفة قال ما خبرك قال أنا رجل من [بني عبس] والله ما كان في [بني عبس] رجل أغنى مني كانت عندي أموال كثيرة وكان عندي أولاد كثر كان عندي من الإبل والبقر والغنم والدراهم والذهب والفضة ما يعلمه الله جلا وعلا ثم عزب لي قطيع من الإبل فخرجت أبحث عن هذا القطيع أتلمس قال ثم عدت بعد ثلاث أيام وقد رجعت بالقطيع فإذا سيل قد جاء على الوادي بعدي فلم يبق لي لا ولداً ولا أماً ولا أختاً ولا بنتاً ولا ابناً ولا مالاً فإذا الديار خراب بلقع ليس بها داع ولا مجيب قال فوقفت وإذا أنا بطفل صغير معلق بشجرة طفل صغير من أطفاله لم يبق سواه قال فتقدمت إليه وأخذته وضممته على صدري وأنتحب قال وإذا بأحد الجمال يند ويهرب قال قلت ضيعت كل شيء من أجلك لأرجعن بك فترك ابنه الصغير قال وبينما أنا أطارد الجمل وإذ بصوت الطفل الصغير يصرخ فإذا ديب قد أخذه وإذا به يسحبه من أمامي مصيبة أي مصيبة قال فبقيت وراء الإبل لم يبق لي إلا الإبل أريد أن أستعيد هذا الجمل قال ووراءه أطارده وإذ به يرفسني فيعمي عيني فإذا أنا في الصحراء لا أهل ولا مال ولا صديق ولا صاحب ولا أنيس إلا الله الذي لا إله إلا هو وجئتك ووالله ما جئتك يا [وليد] شاكيا ولكن جئتك ليعلم الناس أن لله عبادا يرضون ويسلمون بقضاء الله وقدره إذا قدر (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ها هو [أبو ذؤيب الهزلي] يموت له ثمانية أبناء في يوم واحد بالطاعون فيحمد الله ويقول إنا لله وإنا إليه راجعون ويصبر ثم يقول بعض أبيات من الشعر هي عظة وعبرة يقول:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم *** وإذا المنية أقبلت لا تُدْفَعُ
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لغيب الدهر لا أتضعضع
فأي الغاديين أنت فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها