الهم ارحم ضعفنا واجبر كسر إخواننا في غزة
في أسوء الظروف أردت أن أكتب عن طفلٍ واحدٍ يتيمٍ، تطور خلال فترةٍ وجيزةٍ إلى جثةٍ هامدة لا تستبين ملامحها، رأسها من يدها من قدمها، أشلاء مختلطة برع سلاح الجلاد في تشكيلها وصقلها كأعظم منحوتةٍ حفرها سفاح !

أجساد بشرية خلت في الأصل من الحياة تماماً، بفعل المسغبة والحصار الأخوي العربي ! والنسيان التام في غمار همنا الشخصي من تجارةٍ وعقارٍ وأسهمٍ وحفلات ورحلات، أطفال لا تجرؤ أحلامهم عن مغادرة جماجمهم الصغيرة - المصابة بهشاشة العظام والنتوءات الغريبة لنقص الكالسيوم وشح الطعام وتلوث المياه - ناهيكم عن تجاوز أسوار صناديقهم الأسمنتية – ذات الهواء الفاسد - التي لا تعرف أصلاً شكل الطلاء ولا البلاط !

أردت أن …. ثم عجزت تماماً .

الصورة أبلغ من ألف مقال، وأقرف من قرف الدنيا برمته، لم نشبع بعد من الألوان الحمراء والوردية والزرقاء والسوداء المتفحمة ! لم تستفرغ معدتنا تماماً من رؤية الأذرع المبتورة، والسيقان الملوية بفعل شدة الانفجار، والعظام الناتئة، والبطون المبقورة، والأحشاء المعفرة بالتراب !

تكفينا الصور، ويسعنا نحن – رواد المسرح - أثناء المشاهدة أن نضغط على زر mute في الريموت كنترول لكتم أصوات البكاء، ووأد العويل، ودفن الشهقات، ومداراة الذلة، وخزي العجز !

قال لي صديق إعلامي : حينما بدأت الحرب البرية اليهودية على غزة المسلمة قمت بسبر مئات القنوات الفضائية الأوربية والأمريكية لمعرفة وقع الحدث على القوم، فلم أجد لصدى – ليلة السكاكين الطويلة – ذكر ما خلا بضعة كلماتٍ مبعثرةٍ على الشريط الإخباري الأسفل، أو تغطيات خاصة بالقنوات الإخبارية العالمية، ولم يكن حال القنوات العربية بأفضل مما يعرض في نظيراتها العربية .

أيقنت بعدها – والكلام له - أن قيمتنا السوقية هي المحصلة النهائية للصفر، لا شيء بضعة مخلوقاتٍ بشريةٍ تشكل عبأ على الحياة ( وفق رؤيتهم )

أوحت إلي تجربته أن أقرأ لبعض كتابنا المتصهينيين، كان اليوم يومهم، حانت ساعة تصفية الحسابات، النقد لاذع لحماس وللحركات الإسلامية برمتها، والصمت مطبق عن تلك الدماء التي سالت بسلاح النازيين الجدد ! خط رجعةٍ وقربان ولاءٍ للأسياد لا مثيل له .

كاتب آخر تأثر بالأنظمة الشمولية، فشمت وشتم فتحاً وحماس وعرب إسرائيل والضفة وسخر من أعداد الضحايا ! ودعا إسرائيل إلى تأديب حماسٍ وطحنها، كي يعتبر كل حرٍ فكر يوماً في الانعتاق من ربقة العمالة والتبعية .

تمتد خارطة كتابنا المتصهينيين على رقعة العالم العربي، غير إنها تمركزت هذه الأيام على ضفاف الخليج، وكان للأرز - والوجبات الأمريكية السريعة - دور كبير في جلسات عصفهم الذهني للجلب على أطفال الأمة بخيلهم ورجلهم وخزيهم !

ولم تسلم بعض لحى حزب الليكود العربي من خوض غمار التجربة، وتجريم العدو على استحياء شديدٍ، يفوق حياء المومس في وكرها ! فأحدهم كتب عن دور الجمعيات الإخوانية الحزبية الخربوطية في السخرية بحملة المملكة الأخيرة لمساندة الشعب الفلسطيني، وأن جماعة الإخوان المسلمين دعت جماعة الصابئة، إلى التبرع لنقابة الأطباء والسمكرية والبلطجية وعبدة الشيطان في كوستاريكا، بدلاً من التبرع لسلطة زيكو العميلة في موزنبيق !

حتى الساعة عجزت تماماً عن حل هذا اللغز الغريب، كيف حصل صاحبنا على شهادة الدكتوراه، ولا وفي فقه الزبادي أيضاً ؟! لا يمكن له بحالٍ أن يبتاعها، لأن سماسرة الشهادات المزورة لا يبيعونها عادةً على الجراثيم والأوساخ !

مساء هذا اليوم (السبت– ساعة كتابة المقال ) وعقب مكالمةٍ هاتفيةٍ من أحد أساتذتي، تشاطرنا من خلالها الهم، ودعونا الله تعالى أن لا يحاسبنا على صمتنا وخذلاننا لإخواننا، قبل أن نختمها بالحديث عن المنافقين والذين في قلوبهم مرض ودورهم في هذه الأزمة، قمت بعدها إلى صلاة العشاء وفي عقلي يتردد قول الحق تبارك وتعالى من آخر سورة التوبة (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌفَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَآمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون، وَأَمَّاالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْوَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) لا أدري ما الذي اعتراني، لكنني شعرت بعدها بالراحة النفسية، وأن هذا الظلام الكئيب مصيره إلى زوالٍ تامٍ بحولٍ من الله .

إلى الذين راهنوا على المجتمعات الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة المؤتمرة بأوامر الفيتو الأمريكي وتأثيرات عصابة الإيباك، إلى الذين راهنوا على المنافقين والذين في قلوبهم مرض، أقول لنفسي ولهم : راهنوا على ما تبقى من حسن ظنكم بالله، ويقينكم بعدالة قضيتكم وصدق إيمانكم بربكم وزفرات دعاءكم، راهنوا على شجاعة أولئك الشرفاء في جحيم غزة، وإن لم يكن لديكم من رهانٍ تضعونه، فلا أقل من استلهام ما فعله أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه يوم أحدٍ، حينما جاء إلى جماعةٍ فيهم عمر وطلحة بن عبيد الله وهم جالسون قد خُيّم عليهم الحزن واليأس القاتل، فقال لهم : ما بكم ؟

قالوا : قُتل رسول الله .

قال : فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على مثل ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذهب كالصاعقة فاستقبل القوم فقاتل حتى قُتل .

دعوا عنكم إرجاف المرجفين، وتخذيل المنافقين والمتصهينيين، ولوذوا بالله تعالى قبل كل شيءٍ، دعاءً وتضرعاً وقربةً، ولنتذكر جميعاً أنه مهما طال أمد الظلم والقهر، فلابد للمجتمع الإسلامي من ميلاد، ولابد للميلاد من مخاض، ولابد للمخاض من آلام، كما يقول سيد قطب يرحمه الله .

ملحوظة : قبل أن أضع هذه المقالة، نما لعلمي كما نما لعلمكم جميعاً ما قامت به فنزويلا من طرد السفير اليهودي نصرةً لشعبٍ لا يمت للفنزويليين بصلةٍ، أعتقد أننا نحن العرب بحاجةٍ إلى البحث عن تحالفاتٍ جديدةٍ في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، بدلاً من التحالفات اليعروبية التي لا تجيد غير الشجب والاستنكار وحصار المسلمين في المعابر .


ملحوضة الكلام منقول عن الشيخ حسن مفتي الملقب ب(الخفاش الاسود) حفضه الله