الغلاء يجبر المقيمين بالسعودية على تغيير عاداتهم وينعش الطيران الاقتصادي:

بدأ المقيمون في السعودية وخاصة متوسطي الدخل يقتنعون شيئا فشيئا بأن غلاء الأسعار الذي حط على المملكة لن يغادرها قريبا، وشرعوا يكيفون عاداتهم وحياتهم مع تلك الارتفاعات شبه اليومية في الأسعار، والتي طالت شتى مناحي الحياة.

وبدا أن الغلاء غيَّر بعضا من التوزيع الديموجرافي وعادات الكثير من المقيمين، وهو ما أنعش قطاعات وقلص أرباحا أخرى، فالكثيرون -من المقيمين متوسطي الدخل- بدأوا في الرحيل عن وسط مدينة الرياض إلى أطرافها؛ حيث الإيجارات أقل.

والبعض الآخر حزم حقائبه وقرر العودة إلى بلاده، وفريق ثالث بدأ في تقليص نفقاته وإلغاء بنود في قائمة المتطلبات، وتعززت ظاهرة السكن الجماعي في الشقة الواحدة بعد أن رحَّل الكثيرون أسرهم إلى بلادهم.


إلغاء الإجازات

ارتفاع الأسعار الذي ألقى بظلاله السلبية على المقيمين أنعش قطاعات مثل الطيران الاقتصادي وشركات النقل البري، وأعاد البعض إلى محلات الماركات الشهيرة التي هجرها الكثيرون بسبب الغلاء بعد أن باتت أسعارها مرتفعة قليلا عن تلك الموجودة بالأسواق الشعبية التي تتسم بقلة الجودة.

وتشهد السعودية موجات متتالية من ارتفاع الأسعار وهو ما رفع معدل التضخم إلى أعلى مستوى له في 27 عاما في مارس/آذار الماضي، وسجل 9.6% بدعم من ارتفاع الإيجارات ومواد الغذاء، وسط توقعات بأن يتجاوز التضخم جميع تلك النسب بنهاية العام الجاري ليصل لنحو 12%.

ودفع الغلاء المقيمين في السعودية إلى تغيير عاداتهم بالنسبة إلى الهدايا التي يشترونها قبل سفرهم، فالبعض قام بتقليصها، فيما قرر آخرون إلغاء هذا البند تماما، وفضل البعض الشراء من بلدانهم على اعتبار أن الأسعار أقل من السعودية، كما قرر آخرون إلغاء الإجازات.

ويقول خالد العجيلي من اليمن، إن الصورة التي عليها محال الملابس الشعبية الآن باتت مغايرة تماما عن تلك التي كانت عليها قبل موجة الغلاء، وتجار الملابس الشعبية كانوا يتعمدون طرح سلع جيدة لناحية التصميم والخامة بجانب سلع أخرى دون المستوى من أجل إغراء الزبائن، وهذا الأمر أسفر عن انتعاش مبيعات كل السلع تحت مبدأ اختلاف الأذواق.

وأضاف في حديثه لموقعنا "أما الآن فلا يوجد سوى السلع الرديئة، وإذا وجدت سلعة جيدة، فهذا من قبيل المصادفة البحتة، وقررت وأسرتي إلغاء بند الهدايا للأهل والأصدقاء، عندما نتمتع بالإجازة خلال هذا الصيف، وهذا الإلغاء هو الأول من نوعه طوال 15 عاما قضيتها في السعودية".

أسواق شعبية

أما عبد المنصف الجدواي من مصر، فيقول إن ارتفاع الأسعار بات أمرا لا يحتمل، ولكن في نفس الوقت لا أستطيع أن أسافر بدون هدايا للأهل والأصدقاء.

وأضاف "قررت تقليص الهدايا بمعدل النصف تقريبا، وما أدفعه فيها هو ما كنت أدفعه في ضعف تلك الكمية من الهدايا منذ سنوات قبل موجة الغلاء الحالية".

ويقول إن شراء الهدايا في السابق كان لا يستغرق وقتا طويلا، لأن الأسعار كانت مناسبة، أما الآن فإننا نضطر إلى قضاء وقت طويل للشراء بحثا عن الأرخص والأجود.

ويعد الجداوي واحدا من الذين يشكون تغييرا جوهريا في الأسواق الشعبية، ويقول
"أذهب وأسرتي مرة كل أسبوع منذ أكثر من شهرين للمجمعات التي تضم محالا شعبية بهدف التنزه وتغيير الجو المنزلي، وإذا وجدنا ما يستحق الشراء من السلع المختلفة، جودة وسعرا، اشتريناه على الفور للهدايا أو للأسرة، وإن لم نكن في حاجة إليه، ومن ثم نحتفظ به كي نستخدمه مستقبلا، ونحن لسنا الوحيدين الذين يفعلون ذلك".

ويتفق معه يحي الشيبي من سوريا، ويقول إن الغلاء المستشري أفسد علينا السلع الرخيصة وجعلها نادرة، وتجد محلات الملابس الشعبية نفسها مضطرة للسير على السياسة التسعيرية التي قامت عليها، بتوحيد الأسعار لكل سلعها سواء بخمسة أم عشرة ريالات، حتى لا تفقد زبائنها، فلا تجد أمامها سوى عرض نوعيات من السلع الرديئة التي تتناسب مع السعر الذي حددته.

وأضاف قررت عدم شراء الهدايا من السعودية وشرائها من سوريا؛ حيث الأسعار تكاد تكون متقاربة مع فارق الجودة لصالح السلع السورية.

أما عوض شحاته من مصر، فاتخذ منحى آخر وقرر إلغاء الإجازة هذا العام، ويقول "قررت عدم السفر إلى مصر هذا العام، فأنا لا أستطيع السفر بدون هدايا وبكميات كبيرة، وخاصة أن عائلتي عددها كبير".

وذكر أنه اتخذ القرار على الرغم من صعوبته، خاصة أنه يحتاج إلى رؤية والديه وهما كبار في السن، "ولكن ماذا أفعل، فنحن أسرة من 5 أفراد، والطيران وحده يكلفنا أكثر من 10 آلاف ريال (الدولار = 3.75 ريالات)، وأحتاج إلى شراء هدايا بـ5 آلاف على الأقل، ومصاريف عالية في مصر، لذلك قررت عدم السفر وتوفير هذا المبلغ"، مشيرا إلى أنه اعتذر لوالديه عن عدم تمضية إجازته معهما هذا العام بسبب ضغط العمل.

الهجرة إلى الضواحي

ولم يقتصر الغلاء على ذلك بل امتد إلى تغيير عادات المسكن لدى الكثير من المقيمين، فبعضهم قام بتسفير عوائلهم إلى بلدانهم، والسكن مع آخرين لتوفير جانب كبير من الإيجارات -أحد محركات التضخم الرئيسة في السعودية-، فيما قام البعض الآخر بترك سكنه في وسط العاصمة والتوجه إلى ضواحيها هربا من غلاء الإيجارات.

ودفع الارتفاع المتواصل لأسعار الإيجارات مقيمين إلى هجر مدينة الرياض إلى المدن المجاورة لها؛ حيث الإيجارات أقل، حيث قال شهاب المهدي من السودان إنه يقطع نحو 70 كيلومترا يوميا (ذهابا وإيابا) من مدينته المزاحمية (غرب مدينة الرياض) إلى مقر عمله في العاصمة الرياض، وإنه اضطر إلى السكن في المزاحمية بسبب الارتفاع الكبير للإيجارات في الرياض.

وقال المهدي لموقع "الأسواق.نت" "إنه ترك السكن في الرياض منتصف العام الماضي وحصل على شقة أكبر مساحة من شقته السابقة في الرياض، وبسعر 10 آلاف ريال فقط، في حين كان يستأجر شقته في وسط الرياض بـ20 ألف ريال".

وأضاف أنه ليس هو الوحيد الذي ترك الرياض إلى ضواحيها والمدن التابعة لها، وأنه في أثناء رحلته اليومية للذهاب إلى عمله يجد نفسه بين عدد من الشباب العاملين في الرياض الذين هجروها إلى مدن مجاورة؛ هروبا من أسعار إيجارات المنازل المرتفعة.

وتعد السعودية أرخص دول العالم من حيث سعر البنزين؛ إذ يبلغ سعر اللتر 60 هللة (الريال = 100 هللة) للبنزين 95، فيما يبلغ سعر البنزين 92 نحو 45 هللة.

ولوحظ في العامين الماضيين اتجاه عدد من الأسر للسكن في شقة واحدة، وخاصة مع جنسيات مثل الهندية؛ حيث تستأجر عدة أسر شقة واحدة وتقيم كل أسرة في غرفة لتقليص ما يدفع في الإيجارات.

ويرى عضو اللجنة الفرعية للمكاتب العقارية في غرفة الرياض سليمان العمري، أنه من الطبيعي أن يلجأ السكان عموما إلى تغيير أنماط حياتهم والتكيف مع أوضاع الغلاء الجديدة، ويأتي في مقدمتها بند الإيجارات.

ورجح أن يتزايد الطلب على العقارات في ضواحي الرياض والمدن المجاورة لها خلال الفترة المقبلة، مع توقعات بموجة ارتفاع جديدة في أسعار الإيجارات بضغط من الطلب المتزايد وقلة المعروض.

وبدأت أسعار إيجار العقارات بالسعودية مرحلة الصعود منذ بداية 2007، وكانت في أول المطاف في حدود 20% زادت إلى50% وتجاوزت ذلك في الفترة الأخيرة، وسط تحذيرات من تفاقم أسعار العقارات السكنية خلال النصف الأول من 2008، مما قد يتسبب بموجة غلاء جديدة ما لم يتم التصدي لهذا الارتفاع المرتقب بالإسراع في إصلاح السوق العقارية وإيجاد التشريعات اللازمة لتنظيم السوق.

وفي المقابل يطالب المستأجرون الجهات المختصة بالتدخل لإيقاف جشع أصحاب العقارات وتحديد نسبة سنوية لارتفاع الإيجارات.


الطيران الاقتصادي ينتعش

أول المستفيدين من الغلاء الطيران الاقتصادي، الذي زاد الإقبال عليه، ويقول عبد العزيز أحمد المسؤول في شركة الفرسان للسياحة والسفر إن الطيران الاقتصادي قدم خدمة كبيرة للمسافرين، خصوصا تلك الفئات التي كانت تعتبر السفر وكلفته معضلة كبيرة.

ووصف في تصريحات لموقعنا الطلب على شركات الطيران الاقتصادي بأنه كبير جدا، ورحلات الشركات عادة ما تتمتع بنسب إشغال عالية، وتصل إلى 70% في الأيام العادية، أما في المواسم فتصل إلى 100%، مع تسجيل حجوزات مبكرة جدا.

وأضاف أننا نتلقى يوميا سيلا من التساؤلات عن شركات الطيران الاقتصادي وأسعارها ووجهاتها، على عكس السنوات الماضية؛ حيث تقل أسعار الطيران الاقتصادي بنسبة 25 %، وقد دفع الغلاء العديد من المقيمين إلى التوجه إلى الطيران الاقتصادي بحثا عن التوفير وخاصة الأسر التي يكون عددها كبيرا.

وتوقع أن يسجل الطلب على الطيران الاقتصادي نموا كبيرا في السنوات المقبلة مع استمرار موجة ارتفاع الأسعار.

وعما إذا كانت شركات الطيران الاقتصادي رفعت أسعارها بسبب هذا الطلب الكبير على خدماتها، قال إنه حتى لو رفعت الشركات أسعارها فإنها تظل منخفضة كثيرا عن الطيران العادي.

كما استفادت شركات النقل البري الدولية من الغلاء؛ إذ زاد الإقبال عيها، لتكلفتها المنخفضة مقارنة بالطيران، والتي تبلغ 25% فقط من سعر تذكرة الطائرة.

ويقول توفيق المصري إنه لأول مرة يضطر للسفر برا العام الجاري، فالطيران سيكلفه هو وأسرته المكونة من 4 أفراد نحو 9 آلاف ريال، فيما سيتكلف سفره برا نحو 3.5 آلاف ريال، مضيفا "نتحمل تعب السفر برا، ونوفر 5.5 آلاف ريال".